الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

بوشكين.. تراجيديا صغيرة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"عندما يُذكر اسم بوشكين، تتألق في الذهن الفكرة عن شاعر روسي على نطاق الأمة كلها، بوشكين ظاهرة فذة، وربما الظاهرة الوحيدة للنفسية الروسية، وفيه تجلت الطبيعة والروح واللغة والخلق الروسي في تلك الدرجة من النقاء والجمال المصفى على عدسة بصرية بارزة".
كلمات قالها جوجول، الكاتب الروسي العظيم، وصديق بوشكين ومعاصره، والذي جمع في كلماته الكثير من الصفات والألقاب التي أطلقت على واحد من أهم أدباء روسيا والعالم، والذي رغم حياته القصيرة، لكن كتاباته وأعماله امتد صداها منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم.
ولد ألكسندر بوشكين في موسكو في السادس من يونيو عام 1799، لأب ينحدر من أسرة عريقة كانت تتميز بالثراء، وكانت أمه حفيدة أبرام جنيبال الأمير الحبشي الذي اختطفه الأتراك، وأرسلوه هدية إلى القيصر الروسي بطرس الأول؛ وكان الفتى فخورًا بجد أمه الذي كان قائدًا مشهورًا في عهد القيصر، ووصفه في روايته التاريخية "زنجي بطرس الأكبر".
عاصر بوشكين في حياته القصيرة أحداثًا تاريخية هائلة، مثل المد الوطني الذي أثارته الحرب الوطينة عام 1812، وكذلك اندحار قوات نابليون، وعودة الروس ظافرين، كما عاصر في بداية العشرينيات من القرن التاسع عشر نهوض حركة التحرر الوطني في أوروبا الغربية والتي كانت من أحداثها الثورة في نابولي، والانتفاضة في إسبانيا، والنضال ضد السيطرة التركية في اليونان؛ واحتدام الوضع السياسي في روسيا أيضًا، وتأسيس الجمعيات السياسية السرية، التي كانت تستهدف القضاء على نظام الرق، والإطاحة بالحكم القيصري المطلق، فأصبح الشاب الشاعر معبرًا عن النزعات المتحررة لشبيبة النبلاء المتقدمة؛ فانتشرت أشعاره السياسية، والمقطوعات الهجائية المناهضة للتحكم والطغيان، والمدافعة عن حقوق الشعب، مثل القصيدة الغنائية "الحرية" والقصيدتان "القرية" و"إلى تشآدايف" وغيرها، حتى أن القيصر ألكسندر الأول قال باستياء "بوشكين أغرق روسيا بالأشعار المثيرة التي تحفظها الشبيبة كلها عن ظهر قلب، ينبغي أن يُنفى بوشكين إلى سيبيريا"، إلا أن بوشكين تم نفيه إلى جنوب روسيا، بحجة نقل إداري في الوظيفة.
في عام 1820 أصدر بوشكين قصيدة "روسلان ولودميلا"، أولى أعماله الإبداعية الشهيرة، وحينها أهدى الشاعر الشهير فاسيلي جوكوفسكي صورته إلى بوشكين، وعليها إهداء "إلى التلميذ الغالب من المعلم المغلوب"؛ وأعقبها بعناوين أخرى هي "أسير القفقاس، نافورة باختشي سراي، والغجر"، فادت السُلطة لملاحقته من جديد، وتم نفيه مرة أخرى في خريف 1824 إلى قرية نائية في ولاية بسكوف تحت رقابة الشرطة؛ وهناك اقترب من حياة الفلاحين، وتطور وقوى اهتمامه بالإبداع الشعبي، فأخذ يدوّن أغاني شعبية، ويستمع إلى حكايات مربيته التي وصفها بـ" كل واحدة منها قصيدة شعر".
تميز أدب بوشكين بالرجوع إلى ماضي روسيا التاريخي والذي سعى من خلاله إلى خلق نموذج للدراما الشعبية، فسّجل في تراجيديته "بوريس جدونوف" عهدًا من أكثر أوقات التاريخ الروسي زخمًا بالدراما، وهو نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر؛ والتي عرض فيها مشكلة العلاقة بين القيصر والشعب بكثير من الحدة؛ وكانت أول نموذج في الأدب العالمي للتراجيديا الاجتماعية التاريخية الأصيلة، ففيها لا يتصارع الأفراد فقط، بل وتتقرر كذلك"مصائر الشعب".
في ديسمبر عام 1825 قامت في بطرسبورج انتفاضة الديسمبريين، وهم "أعضاء الجمعيات السياسية السرية"، والتي فشلت فشلًا ذريعًا آلم بوشكين، كما فجعه تنكيل الحكومة القيصرية بهم فكتب"الذين شُنِقوا مضوا، ولكن المريع أن يرسل إلى الأشغال الشاقة 120 من الأصدقاء والرفاق؛ ولكنه عاد إلى موسكو في خريف 1826، مواصلًا العمل في مواضيع مستمدة من التاريخ الروسي، فكتب قصيدته الوطنية الملحمية "بولتافا"، وفيها تغنى بعبقرية بطرس الأول كقائد عسكري ورجل دولة، وكيف دافع الشعب الروسي عن استقلال وطنه في المعارك الضارية ضد قوات ملك السويد كارل الثاني عشر؛ وفي عام 1830 أتم أعظم أعماله وهي روايته الشعرية "يفجيني أونيجينالتي استغرق فيها أكثر من ثمانية أعوام، وقد وصفها الناقد الديموقراطي الروسي بيلينسكي بأنها "موسوعة الحياة الروسية".
عام 1831 تزوج بوشكين بالشابة ناتاليا جونتشاروفا، وقد رحل قبيل الزواج إلى بولدينو، ضيعة أبيه الصغيرة، ليدبر شئونه، وهناك أبدع "التراجيديات الصغيرة"، والدراما الأسطورية "عروسة الماء"، وقصيدته "بيت في كولومنا"، وكذلك أول عمل نثري كبير له "قصص بيلكين"، وأعقبها بفترة بروايته الاجتماعية "دوبروفسكي" التي لم تظهر إلا في عام 1841 بعد موته؛ ولكن آخر أعماله قصة "ابنة الآمر" تعتبر نموذجًا للعمل الأدبي التاريخي الواقعي، والتي رسم فيها صورة ساطعة لانتفاضة فلاحية عفوية، وخلق شخصية قائد الفلاحين ايميليان بوجاتشوف.
انقضت سنوات بوشكين الأخيرة في ظروف عسيرة، وسط توتر متزايد في علاقاته مع القيصر، وعداء من جانب الأوساط ذات النفوذ من ارستقراطية بطرسبورج المرتبطة بالبلاط، حتى جاءته مبارزة مع المهاجر الفرنسي دانتيس انتهت بموته في العاشر من فبراير 1837 جراء جرح بليغ، وقد هزّ موته المبكر روسيا كلها؛ وعبّر ميخائيل ليرمونتوف عن مصاب الشعب وحنقه في قصيدته "موت شاعر"، ولكنه سرعان ما عوقب بالنفي جزاءً على قصيدته.