الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

المراسلات العسكرية اليومية لنابليون بونابرت فى مصر (٢)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
** نشاط لجنة الفنون والعلماء المصاحبة للحملة على مصر احتلت مكانًا مهمًا فى تفكير قائد الجيش

** الرسائل تكشف معاناة الفرنسيين من كمائن المقاومة المصرية.. والجنود واجهوا طقسًا حارً ا نهارًا باردًا ليلًا 

** نابليون يطالب «جنوده» بقمع ثورة المصريين.. أحرقوا القرى وقطعوا رقاب الرجال وأغرقوا النساء وفقًا للتقاليد التعسة لهذه البلاد


الحرب المصرية وبزوغ رجل السياسة
إن الجزء الثانى من المراسلات العامة لبونابرت والتى تتكون من ٢٥٥٠ رسالة موقعة من الجنرال بونابرت بين ١ يناير ١٧٩٨ و١٣ ديسمبر ١٧٩٩ نضعه فى متناول الباحثين والمؤرخين وأمام المولعين وهواة المعرفة.
فى هذه الرسائل هناك ما يقرب من ألف منها لم ينشر من قبل لا فى إصدارات مؤسسة «الإمبراطورية الثانية(١)» للمراسلات ولا فى المراجع الكبرى الخاصة بالموضوع.
وكما كان الحال عند نشر الجزء الأول فإن ما أعطاه هواة إقتناء الوثائق والبحث النهم فى مراجع الكتب والزيارة «المتأنية» لصناديق الأرشيفات المعروفة وأخيرًا بل و– خصوصًا – الاستفادة إلى حد الإستغلال من أرشيفات، إن لم يكن من كنز مكتبة الإدارة التاريخية للقوات البرية وكذلك البحث التلقائى لكل كتالوجات البيع فى المزادات لهذه الوثائق. كل هذا سمح بإصدار هذا المجلد.
بهذه الخطابات التى كتبها وهو منتصر فى إيطاليا، ثم وهو القائد العام للجيش الموجه لغزو إنجلترا ثم وهو القائد العام للجيش الموجه لغزو مصر ثم وهو قنصل مؤقت(٢) وأخيرا وهو القنصل الأول للجمهورية فى الأيام الأخيرة من عام ١٧٩٩ نستطيع الدخول بشكل أكيد إلى قلب رجل السلطة الذى اسمه نابليون بونابرت.
من المؤكد إنه إلى جوار رجل السلطة هناك صورته وهو زوج وهو أخ وهو صديق بل وهو قائد حربى ولكن هذه الصفحات تظهر أن تكون بونابرت على كل هذه الصفات انتهت مع اعتقاده فى ضميره بأنه خلق ليكون له قدر عظيم وهو ما لا نراه فى رسائل الشباب ولكن نرى بدايات الطموح تظهر على استحياء فى رسائل شهر فانديمير(٣) وما بعدها فإذا كانت الرغبة فى السلطة مضغوطة حتى لا تظهر فى رسائله من إيطاليا أثناء الحملة عليها فإن الحقيقة البديهية تبدو فى كل هذه المراسلات وهى أن بونابرت رجل دولة وسياسى رفيع المستوى فى المهنة التى يجيدها وهى الحرب. 
ها هو يبدأ فى قطب وجهه بعدم طاعة حكومة الإدارة ويدفعها إلى عدم غزو إنجلترا، وها هو يحلم بتولى مناصب عليا فى الدولة وها هو يغير بنفسه مجرى الأحداث ويفرض على حكومة الإدارة وبمساعدة تاليران (٤) الفكرة الإستراتيجية بغزو الشرق وها هو أخيرًا بل وعلى وجه الخصوص يحكم ويدير مصر وعندما عاد ليرتدى تشريفة القنصل العام لفرنسا كان واضحًا أن ملابسها ليست واسعة عليه فقد كان التحول داخله قد بدأ.
انتهت الحملة على إيطاليا وعقد مؤتمر فى مدينة راشتات بسويسرا بالتصديق على اتفاقيات كامبوفورميو(٥) وإرساء السلام فى القارة الأوروبية. وكان بونابرت أفضل من يمكن تولى المفاوضات على الأقل من وجهة نظر حكومة الإدارة ولكن هذا الرجل الهوائى لم يبق سوى عدة أيام بسويسرا وها هو الآن فى باريس حيث أنتخب عضوا بالمجمع العلمى لأنه لم يكن من الممكن أن يبقى عاطلًا فأسند إليه فى ١٢ يناير ١٧٩٨ قيادة الجيش الموجه لغزو إنجلترا وذلك لفرض السلام الفرنسى على لندن.
وفى الأسابيع الأولى لم يكن بونابرت يولى أهمية كبيرة للمنصب القيادى الجديد فهو وإن كان خبيرًا فى المسائل الإيطالية فإن الحكومة تركت له كامل الحرية فى القيادة الجديدة الموجهة لإنجلترا. صحيح أن الجنرال بريتييه تولى قيادة كتائب حامية أركول وريفولي(٦) إلا أن بونابرت ظلت له اليد العليا فى الشئون الإيطالية بل كان يكتب بنفسه الخطابات الإدارية حتى توقعها حكومة الإدارة دون مناقشة. 
وبالرغم من وجود عدد من الكتابات له حول القيادة الجديدة المسندة له إلا أنه يبدو أن موضوع إنجلترا لم يرق له. على أى حال ليس إلى حد أن يكلف خاطره بالتواجد وسط جنوده هناك. لكن المهم أننا نعرف أنه فى هذه اللحظة بالذات بدأ يفكر فى الحكم ولكن يبدو أن الوقت لم يكن ملائمًا للوثوب على السلطة حيث قال بنفسه فى مذكرات سانت هيلانة «أن ثمرة الكمثرى لم تكن قد نضجت بعد".
كان عليه إذن أن يشغل نفسه بإنجلترا فذهب للتفتيش على سواحل الأطلسى فى شهر فبراير. وكعادته فإنه يعمل بدون انقطاع ثم ينهى العمل خلال أيام ليعود بعدها باستخلاص النتيجة التالية «أيا كانت الجهود التى سنبذلها فلن يمكننا من هنا لعدة سنوات قادمة التفوق العسكرى فى البحار ولا نزول قواتنا إلى الأرض الإنجليزية دون تفوق بحرى عليها وإلا سيكون ذلك غاية فى الجرأة بل من أصعب ما يكون «حسب ما قال هو بنفسه (٧).
كان إذن ضروريًا أرض أخرى يلعب فيها هذا الجنرال وهنا ستأتى فكرة مصر من تاليران ومنه شخصيًا، كان لا بد من إعادة فكرة غزو مصر إلى ذوق ذلك العصر لأنه كان موضوعًا «كلاسيكيًا» فى الدبلوماسية الفرنسية فى القرنين ١٧ و١٨ فى إطار الصراع مع إنجلترا. وبدون الرجوع إلى مشروع الفيلسوف لايبيتز الذى قدمه دون أن يكلل بالنجاح إلى لويس ١٤ فإن الفكرة ظلت تتردد قبل وأثناء الثورة.
وكان المشروع الأكثر اكتمالًا فى هذا الخصوص هو ذلك الذى قدمه دى سارتين وزير البحرية حيث كلف البارون دى توت Tott وهو أحد قدماء الخبراء الفرنسيين فى جيش السلطان العثمانى بالقيام بمهمة استطلاع فى مصر ولكن لويس ١٦ لم يرد الذهاب أبعد من ذلك. ولم يبق سوى أن توت وضع كتابًا عن تجربته لقى نجاحًا كبيرًا. إلا أنه فى عام ١٧٩٣ وخصوصًا عام ١٧٩٥ كانت التقارير المرفوعة لحكومة الكونفاسيون تؤكد سهولة القيام بغزو مصر.
وقد تركت حكومة الإدارة نفسها لتقع فى الإعجاب بهذا المشروع وليس فقط التخلص من جنرال «ثقيل» كما قيل «إننا لن نعرض حياة ٣٠ أو ٤٠ ألف جندى فرنسى لصدفة معركة بحرية غير معروفة نتائجها من أجل التخلص من جنرال طموح بل إنه من الضرورى أن اقتنع بأن الحملة على مصر ستعود بالنفع على الجمهورية ولن تكون فقط وسيلة لتحقيق طموحات نابليون «حسب ما قال لاريفايير لبيو(٨) أما روبيل المتخصص فى الشئون الخارجية فقط كانت لديه طموحات أخرى تجاه إنجلترا.
فقد كان يريد أن يهاجم مباشرة إنجلترا من جهة أيرلندا التى كان يطلق عليها حينئذ إقليم الفانديه الإنجليزى(٩). 
ربما كان عدم معرفة رجال حكومة الإدارة الاعتقاد انهم كانوا سيوافقون على التضحية ليس ببونابرت بل بجزء مهم من الأسطول الفرنسى وأفضل ما فى الجيش من أجل مصالحهم الآنية لقد قبلوا بمشروع غزو مصر لأنه كان سيعود بالنفع على الدبلوماسية الفرنسية.
بالطبع يمكن أن نضع فى الاعتبار أن تجارة إنجلترا مع الهند كانت تستهدف ضمن أهداف الحملة على مصر فإن كسر هذا المنبع للموارد الإنجليزية كان يعنى إصابة بل ضرب مصادر تمويل الحرب فى أوروبا. ومن هنا كانت تعليمات حكومة الإدارة لبونابرت لا تحتمل الخلط «ستطرد الإنجليز من كل ممتلكاتهم فى الشرق وسيهدم كل مراكزهم التجارية فى البحر الأحمر وسوف يقطع برزخ السويس ويتخذ كل الإجراءات الضرورية التى تؤدى إلى امتلاك الدبلوماسية الفرنسية البحر الأحمر".
ولتحقيق هذه المهمة سنلقى بونابرت الذى نعرفه قبل الحملة على إيطاليا فالرسائل والأوامر العسكرية انطلقت فى كل اتجاه، سفينة هنا وكتيبة هناك، تعيين جنرالات هنا، وتجنيد علماء هناك حتى كتبة حسابات الحرب تم استنفارهم إلخ.
إن قراءة كل هذه الثروة من الرسائل وباللغة النثرية لرسائل ذلك العصر والتى يبلغ عددها فى الجزء من المراسلات ما يقرب من ٢٤٠٠ رسالة لهى فى حد ذاتها درس كبير من دروس فن الاستعداد للحرب وقيادتها.
ها هو بونابرت ينزل إلى شواطئ الإسكندرية ليبدأ الحملة على مصر التى أصبحت أسطورة والتى غطى فيها – ولا شك – النجاح العلمى على الفشل العسكرى.
إن قراءة هذه الرسائل التى تم تجميعها ومنها مجموعة مهمة من الأوامر العسكرية التى لم تنشر من قبل تكتسب أهميتين رئيسيتين.
الأول: ان نشاط لجنة الفنون والعلماء المصاحبة للحملة وخصوصًا نشاط المجمع العلمى المصرى تحتل مكانًأ مهمًا من إهتمام قائد الجيش وبالطبع لا يمكن القول أن الجانب العلمى لم يحظ نهائيًا بالاهتمام لأن رسائل بونابرت ليست المصدر الوحيد لهاولكن نفهم من هذه الرسائل- وهنا الاهتمام الثانى- أن الحملة على مصر كانت مسألة عسكرية وسياسية بالدرجة الأولى وأنها أخذت كل إهتمام بونابرت. وان هذه الرسائل تظهر لنا بالفعل النشاط اليومى والهواجس والأمور المستعجلة للجيش.
إن الحملة الفرنسية على مصر كانت «حربًا» بكل المعانى وقتالا شرسا فى ظروف صعبة لم يتخيل الفرنسيون أنها ستصل بهم إلى هذا الحال. وكانت فيها المعارك التقليدية بين الجيوش النظامية نادرة بينما كانت الإشتباكات الصغيرة كثيرة وكذلك الكمائن التى نصبتها للفرنسيين مجموعات مختلفة ومنظمة من السكان. أما المناخ فقد كان جديدًأ على هؤلاء الجنود الذين أتوا من طقس معتدل ويرتدون زيًا عسكريًا لا يتوائم مع طقس البلاد فكان الجند يموتون من الحرارة والطقس فى النهار ثم البرد ليلًا. وعانى الجنود من أمراض الدوزنتاريا أو الرمد إذا لم يحصدهم الطاعون وكان القادة لا يعرفون الاستراتيجية الملائمة لمواجهة هذا النوع من الحرب فبعد أن قاد بونابرت رجاله فى إيطاليا فيما كان يطلقون عليه «السهول الأكثر خصوبة فى العالم» وجد نفسه يقود ٤٠ الف رجل فى جهنم أو ما يقرب من ذلك. ومما زاد من صعوبة المهمة أن الحملة انقطعت بها طرق الاتصالات بالوطن وبالعالم (بعد غرق الأسطول فى أبى قير).
وبعد أن رحلت سفن الحملة من موانئ تولون وجنوا وروما وأجاكسيو فى أواخر مايو ١٧٩٨ اجتاحت الحملة بسهولة جزيرة مالطة فى طريقها إلى مصر قبل أن تحتل الإسكندرية فى ١ يوليو. وبعد عبورها للصحراء من الإسكندرية للقاهرة سحق الجنود جيش المماليك فى موقعة الأهرامات ودخل بونابرت بجيشه القاهرة فى ٢٣ يوليو بينما هرب قادة المماليك، مراد بك إلى الصعيد وإبراهيم بك إلى سوريا.
احتل إذن الفرنسيون بلاد الفراعنة وبات هدف قطع طريق الهند على إنجلترا قريب المنال حتى وقعت معركة أبى قير البحرية التى أرسل فيها نيلسون أغلب القطع البحرية الفرنسية إلى أعماق البحر لأ

نها لم تستطع أن تنفذ تعليمات بونابرت فى الاحتماء بالميناء القديم للإسكندرية (١٠)، وبعد أن شكك بونابرت فى نتائج هذه الكارثة بدأ يستسلم لبديهة أن ما حدث كان كارثة ونلحظ ذلك فى قلق خطاباته لشهر أغسطس ١٧٩٨ حيث بدأ يطرح على نفسه السؤال الكبير: «هل يبقى هنا أسيرًا لغزوته؟"
ها هو بونابرت وللمرة الثانية بعد حملة إيطاليا تتجلى حيويته حاسمة وباعثة للحماس ومخلصة لقد تجلت عبقرية المنظم فيه وحس القيادة كفضائل ضرورية للقائد العظيم حسب ميكيافيلى لتنقذ الموقف.
بالرغم من عقيدته الشخصية المحابية للإسلام وبالرغم من المزايا التى قدمها للوجهاء المصريين الذين انضموا إليه فإن الأهالى قاوموه أو على الأقل تأففوا من الخضوع له.
قسم بونابرت مصر إلى أقاليم ووضع جنرالا على رأس كل منها وأنشأ مؤسسات لتشجيع التجارة والتموين وأشرك الأقباط والبدو الأقل خضوعًأ له فى خططه لتسهيل مهيشة الجيش فى مصر ومشروعه لتحديث عملى ملموس وعاجل.
ربما كان تحديث مصر أحد نتائج الحملة ولكن فى الوقت الراهن لا يشغل الجنرال نفسه بذلك فقد كان الجنود المتواجدون بشكل منفرد يتعرضون للاغتيال وطوابير الجيش للهجوم وكذلك قتل الأسرى. هل تندلع انتفاضة؟
لقد قمع بونابرت الإنتفاضة دون خلجة نفس أو ضعف ورد الصاع صاعين. ومنذ هذه اللحظة أصبحت القسوة متبادلة من الجانبين فالحرب لا تمارس باليد الممدودة ولا بالملاطفة ومن يأتى عدم اندهاش المؤرخين من وجود أعداد كبيرة للقتلى. وقد كتب بونابرت بنفسه: «يجب قطع الأعناق». «قتل كل من لا نستطيع الإمساك به». «أن نلقى بهم فى الماء». «أن نكتف هؤلاء اللئام». لقد أذاق الفرنسيون للثوار طعم السيف والبارود وحرقوا القرى وأعدموا رميًا بالرصاص أو قطعوا رقاب الرجال وأغرقوا النساء وفقًا للتقاليد التعسة لهذه البلاد.
هل عانينا من نقص أعداد الرجال والخيل؟. بالنسبة للرجال فنتيجة لعدم الحصول على تعزيزات (بعد غرق الأسطول) فدق تم تجنيد الـأتراك والأقباط والمماليك بل حاولنا شراء العبيد. أما بالنسبة للخيول فقد حلت الإبل محل أجمل ما رود الإنسان ومن هنا أصبحت بل بونابرت أيضًا أسطورة. هل كان هناك نقص فى المال؟ لقد أوجدنا المال بجباية الضرائب العثمانية وفرض ضرائب جديدة وبمصادرة أموال وممتلكات أعداء الجمهورية وباختراع «الممتلكات الوطنية"(١١) بل باختراع اليانصيب وكانت كل هذه الإجراءات «بروفات» لسياساته عندما سيصبح قنصلًا عامًا على فرنسا(١٢). هل جاع الجيش؟ لقد صادرنا واستولينا ونهبنا واشترينا أحيانا منتجات من الجانب الآخر من الصحراء والويل لكل من لا يجارينا. لقد توقناهم بالزهور ثم استخدمنا ضدهم الشدة عند الحاجة.
ننزع عنهم رتبهم ونرسلهم لفرنسا هذا إذا استطاعوا بالفعل عبور المتوسط ولم يكن أمام الإدارة إلا أن تنفذ الأوامر. الجميع نال نصيبه من توبيخ الجنرال حيث بدأ يشعر بالفراغ من حوله بسبب فقدانه الأصدقاء وكثيرين إما للحاجة إلى أن يكون مؤثرا أو الرغبة فى تضخيم الغموض حول شخصيته.
أما أفراد الجيش حتى وهم عرايا يتزمرون فقد وضعوا تحت سطوة ضبط وربط من حديد فكان ذلك بداية ظهور الجنود المتزمرون (١٣) قبل ظهروهم بالفعل فيما بعد فى جيش نابليون. أما الجنرالات فلم يكن حالهم أفضل، فالجنرال دوما (أبو الكاتب الشهير الكسندر دوما) أعطى شهادته فى هذا تمامًا كما حدث مع كليبر وكافاريللى ومينو وديزيه بالرغم من أنهم كانوا من أصفيائه.
استمرت الحرب فقد كان لا بد من إخضاع باقى أنحاء مصر وبالفعل كان ديزيه قد انطلق مع جيشه للصعيد فى أعقاب مراد بك وتم توظيف كبار رجال البحرية المعتادون على أعالى البحار فى المراسى المتواضعة لمراكب النيل. وصدرت الأوامر بتصنيع البارود وإنشاء التحصينات وبحفر الترع بل محاولة بناء السفن وقد استخدم بونابرت فى كل هذه الأعمال علماء الحملة والواقع أنه فى الظروف الخطرة لهذه الحملة فيما عدا حالات نادرة فإن العلماء لم يقدموا خدمات إلا للحاجات الاستراتيجية. إن قرار إنشاء المجمع العلمى فى ٢٢ أغسطس ١٧٩٨ سمح لهؤلاء العلماء بتقديم المساعدة الفنية للجيش والإدارية للبلاد والاستجابة لطلبات حكومة البلاد. فالاستكشاف وعلم الآثار ونشر التنوير الأوروبى ظلت هدفًا ثانويًا.
وبعد الكمائن والمناوشات عاد الجيش للحرب الكلاسيكية ولم يكن هناك أبرع من بونابرت فى مثل هذا النوع من الحروب. لقد صدق بونابرت تاليران الذى وعده بالذهاب إلى القسطنطينية لتهدئة المالكين الحقيقيين لمصر. لقد حاول أن يطمئن الباب العالى ويعطى لنفسه صورة طيبة لدى بكوات وسلاطين وشيوخ المنطقة. ولكنه فشل فى هذا على طول الخط فقد كان الإنجليز يحاصرون السواحل وكان أول جيش تركى يتشكل فى سوريا إستعدادًا لمواجهة بونابرت. إلا أن بونابرت تقدم لمواجهتهم وهزمهم فى العريش واحتل غزة ويافا حيث أصدر أوامر بإعدام الأسرى ولم يذهب حتى إلى القدس التى كانت حينئذ «بندرًا» صغيرًا لا أهميةله ولكن به أسماء مشهورة فى الكتاب المقدس وتعود غلى ظهور المسيحية كبحيرة طبرية والناصرة فكان يتم افتعال معارك فى هذه الأماكن أو بالقرب منها حتى يمكن إطلاق هذه الأسماء عليها. وأخيرًا تكسرت نصاله على أسوار عكا كما حصد وباء الطاعون جموده على نطاق واسع فإكتفى بالانتصارات التى حققها وعاد أدراجه إلى مصر ليواجه الجيش العثمانى الذى كان قد نزل لتوه عند أبى قير لتبدأ معركة أبى قير البرية فى ٢٥ يوليو ١٧٩٩ وتنتهى بأن ألقى بهم بونابرت فى البحر.
أصبح بونابرت- بدأ من هذه اللحظة – فى عالم آخر فالأنباء النادرة التى كانت تصله من فرنسا عرفته أن حكومة الإدارة فى موقف صعب. لقد نضجت الثمرة وحان قطافها فاستخدم حق الرجوع الذى كان حكومة الإدارة قد سمحت به له فقرر العودة إلى فرنسا فى سرية تامة تاركًا لخليفته الجنرال كليبر رسالتين عاجلتين جدًا خلال شهر ونصف (سبتمبر- أكتوبر) ليس للمراسلات أى وجود. إن عودة الجنرال لا تتم فى عجالة ولكن فى تكتم تام. فعلى ظهر السفينة لامويرون La Muiron وهو اسم أحد جنوده الذين ماتوا دفاعًا عنه فى إيطاليا يقترب من سواحل فرنسا بعد أن استطاع الهرب من رقابة الزوارق البريطانية ولا نعرف أى شىء عن مشاعره خلال هذه المرحلة الخطرة ولا عن تأثره عندما رأى مسقط رأسه كورسيكا حيث لن يراها ثانية أبدًا ولكن فى الوقت الحالى هو لا يعرف هذا. لا نعرف إذا ما كان كتب مراسلات أم لا وعلى أية حال إذا كان قد كتب فهى لم تصل لنا.
الأرجح أنه التزم الصمت خلال الرحلة حتى لا يلفت انتباه العدو من ناحية والاحتفاظ بعودته كمفاجأة من ناحية أخرى. وكان أول من علم بنبأ عودته هو قائد حامية تولون قبل حكومة الإدارة بيومين.
مرة أخرى صمت تام يلف قلم بونابرت فمؤامرة شهر برومير يجرى الإعداد لها والمتآمرون لا يحبون ترك أثر لمناقشتهم ولا لخططهم ولا لتواطئهم.

والمراسلات تترك لنا القليل حول الإعداد للانقلاب.
ولكن بدءًا من ١٠ نوفمبر دخل بونابرت إلى حقل العمل وها هو عضو فى لجنة القنصلية المؤقتة حيث كان لمدة شهر وأكثر قنصلًا أول لفرنسا. ومع بداية أول حكومة لنابليون بونابرت فى فرنسا ينتهى هذا الجزء من المراسلات بنحو ٧٥ رسالة على سبيل فتح الشهية. لقد تغيرت الوظيفة ولكن أسلوب رجلنا ظل هو الذى نعرفه فالخطابات قصيرة ومباشرة ومحددة والأوامر بل والأسئلة تبدو كأنها صفعات. ليس أماه وقت للتأقلم كل ما فعله هو أنه بذل بعض الجهد فى الشكليات مع اللجان التشريعية المكلفة بتشريع القرارات التى ستتخذها حكومة الإدارة الثلاثية Triumvirat المؤقتة.
إن الجمهورية ما زالت فى حالة حرب وهذا الملف يشغل السلطة الجديدة وخصوصًا بونابرت. ولم ينس جيشه فى الشرق وهناك عدة قرارات تحولت بسرعة إلى قوانين تخص هذا الجيش. وقد بذلت محاولات لتفاهم سياسى ما ولكن الوقت لم يحن بعد للتفاوض الدبلوماسى، ويعيد تنظيم الجيوش وها هو يستعد للحرب من جديد. فعين الجنرال بيرتييه الذى عاد معه من مصر والذى كان يعرف عن ظهر قلب أسلوبه وسرعته كوزير للحربية وفى العلاقات الخارجية عين رينار الذى أعتبر مؤقتًا لحين احتلال من كان يعتبر الصاحب الطبيعى لهذا المنصب فى هذه الوزارة بشارع باك وهو تاليران الذى يعمل فى الخدمة منذ ١٧٩٧ وأدى توليه المنصب لتدعيم العلاقة بين رجلين. وبدءًا من هذه اللحظة تظهر على مسرح المراسلات شخصية رئيسية أخرى وهو جوزيف فوشيه وزير البوليس العام(١٤).
وسيخرج منه آخرون Sieyes الذى تم التخلص منه بإبعاده إلى مجلس الشيوخ بشىءٍ من المرارة ولكن بكثير من الثراء الذى سيحصل عليه جراء هذا الاستبعاد.
قد أنتهى عام ١٧٩٩ بإنشاء نظام سياسى جديد يعرف بإسم الكونتيتسيون Constitution (الدستور) فى السنة الثامنة للثورة برئاسة بونابرت – وخلفه بمسافة كافية – رجال أستخدموا كأدوات للسلطة مثل كامباسريس Cambaceres ولبران Lebrun. وبدءًا من هذه اللحظة يمكن القول أن نابليون بدأ البزوغ من تحت أنقاض بونابرت.
نستكمل الأربعاء المقبل..

المراجع
(١) لا بد من التفريق بين الإمبراطورية الأولى التى أسسها نابليون الأول الذى نعرفه والثانية التى أسسها نابليون الثالث ونعرفه فى مصر كزوج للإمبراطورة أوجينى ودوره فى قصة حفر قناة السويس (المترجم).
(٢) اتخذت الجمهورية الفرنسية فى بداياتها ألقاب الحكم الرومانى على أساس أنها كانت جمهوريات يعين رئيسها مجلس الشيوخ الروماني. ومن هذه ألقاب لقب: القنصل الأول. (المترجم)
(٣) شهر من شهور السنة الجديدة التى فرضتها الثورة الفرنسية بعد إلغاء الشهور الميلادية قبل العودة إليها مرة أخرى فيما بعد (المترجم).
(٤) هو واحد من أشهر وزراء الخارجية فى فرنسا والعالم وعرف بالدهاء الشديد والسطوة وقوة الشخصية والحجة وما زالت مأثورات أقواله شائعة فى اللغة الفرنسية. (المترجم).
(٥) هى الموقعة التى انتصر فيها نابليون فى إيطاليا ووقع فيها المعاهدة التى تحمل اسم الموقعة والتى فرض فيها حكم فرنسا على أجزاء كبيرة من إيطاليا. (المترجم).
(٦) اسم موقعة أخرى شهيرة انتصر فيها نابليون فى إيطاليا ويخلدها اليوم اسم واحد من أشهر الشوارع فى العاصمة الفرنسية (المترجم).
(٧) كان تاليران قد تحدث فى يوليو ١٧٩٧ فى محاضرته أمام المجمع القومى عن ما سماه «مستعمرات الباب العالى» ومصر وذلك فى إطار بحث شامل عن المزايا التى يمكن أن تستخلصها فرنسا من هذه المستعمرات فى الظروف الحالية. وقد أشار تاليران إلى إمكانية أن تفقد فرنسا وإنجلترا مستعمراتهما (المقصود فى العالم الجديد فى الأمريكتين). وقد دعا الأسقف السابق (يقصد تاليران) إلى الاستعداد إلى التفاوض مع الإمبراطورية العثمانية من أجل أن تتنازل Cession عن مصر.
(٨) كان La Revelliere- Lepeaux قد نشر فى أمستردام فى ١٧٨٤ كتابًا بعنوان «Memoires Sur Les Turcs et Les Tartares» وبعدها بثلاث سنوات نشر Volney كتابه الذى قرأه بونابرت قبل حملته على مصر: «الرحلات فى سوريا وفى مصر".
(٩) اشتهر هذا الإقليم بشمال غرب فرنسا بالتمرد على حكومات الثورة الفرنسية وميلها إلى العهد الملكى (المترجم).
(١٠) المقصود الميناء التجارى الحالى الموجود فى منطقة المكس غرب الإسكندرية. (المترجم).
(١١) المقصود هيئة أشبه بدار المال. (المترجم)
(١٢) يرى مؤرخون كبار فى فرنسا وعلى رأسهم جان تولار أنه أى «بونابرت» إذا لم يكن قد تعلم الحكم والإدارة فى مصر، لكان من الصعب أن يصبح أمبراطورًا على فرنسا.
راجع كتابى «بونابرت والشرق الإسلامى» الصادر فى ترجمات المركز القومى للترجمة عام ٢٠٠٥. (المترجم).
(١٣) ظاهرة الجنود المتزمرين أو ما يطلق عليه بالفرنسية Les Grognards ظهرت فى جيوش نابليون عندما أصبح إمبراطورًا وخاض حروبًا دموية ضد ممالك أوروبا وكان هؤلاء الجنود من الشراسة والقوة فى القتال جعلتهم على أوضاعهم فى الجيش رغم أن نابليون كان يحبهم ويمنحهم المزايا لإدراكه مدى وفائهم وإخلاصهم له.
(١٤) وزير الداخلية