الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فيلسوف الأزاهرة "محمود حمدي زقزوق"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جاءني خبر انتقال الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق، عضو هيئة كبار العلماء، ووزير الأوقاف الأسبق، إلى رحمات الله الواسعة، فأسلمتني المفاجأة إلى سكون غريب، جعل الأفكار والمعاني تتدافع في عقلي، وحاولت استجماع حروفي لأكتب بعض كلمات وفاء لعَلَمٍ من أعلام الصَّحوة الفكريَّة في المدرسة الأزهريَّة العريقة.
ولكن أنَّى لكلماتي أن تحيط بالرَّجل علمًا وفكرًا ورؤية!
درج الفقيد في رحاب الأزهر الشَّريف منذ نعومة أظفاره، وظل يترقَّى في سلَّمه حتَّى نال عمادة إحدى كليَّات جامعته، فتشرَّب علوم الأزهر التُّراثيَّة، وهضم روح هذه العلوم ومناهجها، وضمَّ إلى ذلك الخيرِ كلِّه روحًا جديدة جاءت من هذه العقليَّة الفلسفيَّة الَّتي أتاحت له في أطروحته للدكتوراة أن يجري مقارنة فكريَّة بين فيلسوف الإسلام أبي حامد الغزالي، وبين ديكارت الفيلسوف الأوربيِّ، وبينهما من الزمان قرون، وبينهما من المكان أميال، ولكن جمعهم الفكر والنَّظر والتَّأمُّل.
لقد حمل الرَّاحل همَّ الجمع بين أشتات قَضَتْ بعض العقول بفُرْقَتها، فحاول الجمع بين ثلاثيَّة لا تنفصم، هي ثلاثيَّة «الدِّين والفلسفة والتَّنوير»، بعد أن أحدثت الفرقة المدَّعاة بينها ما أحدثت من آثار أنتجت التَّطرُّف حينًا، والتَّفلُّت حينًا، والتَّقوقُع حينًا آخر. ويمكن ملاحظة جمعه بين هذه الثُّلاثيَّة الَّتي شغلت تفكيره في مؤلَّفاته الَّتي عالجت كثيرًا من الأفكار الشَّائهة، فهو في مجمل كتبه يبيَّن وظيفة كلِّ واحد من هذه الثُّلاثيَّة، وتعلُّقه بصاحبيه، فهو يرى أنَّ التَّعارض بين الدِّين والفلسفة وَهْمٌ كبير لدى بعض النَّاس، وأنَّ الفلسفة إذا كانت نشاطًا عقليًّا يسعى لإدراك الكون الَّذي يعيش فيه الإنسان، ويحلِّل العلاقة بينه وبين مكوِّنات هذا الكون، فإنَّ الدِّين يقوم بتفسير هذا الكون أيضًا، ويحدِّد كيفيَّة التَّعامل مع الحقائق الموجودة فيه، سواء كانت ماديَّة أم روحيَّة؛ ليخرج من هذا كلِّه بعد إعمال نظر بإثبات أنَّ كلَّ إنسان يتفلسف ولو بقدر، حتَّى لو كان رافضًا للفلسفة، وليصل بعد رؤية واضحة إلى التَّنوير الَّذي لا يخرج إلَّا من رحم الدِّين الَّذي يستثير العقل والفكر، ومن ثمَّ فلا تعارض ولا تناقض ولا مدافعة بين هذه الثُّلاثيَّة المتكاملة.
لقد سكنت عقلَ الفقيد روحُ الفيلسوف المتأمِّلة المفكِّرة، وظلَّت مسيطرة عليه حتى ظهرت ملامحها في كتبه ومؤلفاته الَّتي تجاوزت الَّثلاثين كتابا –فيما أعلم-، بعضها مترجم إلى لغات أجنبيَّة، فضلا عن الموسوعات العلميَّة الرصينة الَّتي قام بالإعداد لها، ومتابعتها إبَّان توِّليه حقيبة وزارة الأوقاف الَّتي استمر يديرها مدَّة خمسة عشر عامًا كاملة، ومن هذه الموسوعات: موسوعة حقائق الإسلام في مواجهة حملات التَّشكيك الَّتي قدم بها لدينه خدمة جليلة، وضَّح بها الغامض، وكشف فيها المشكل، والموسوعة الإسلاميَّة العامَّة، والموسوعة القرآنيَّة المتخصِّصة، وغيرها من موسوعات قيِّمة.
ولو توقَّفنا عند عناوين بعض هذه المطبوعات لأدركنا ما الَّذي سيطر على فكر الرَّجل من نظر وتأمُّل، فمن أهمِّ كتبه:
«الاستشراق والخلفيَّة الفكريَّة للصراع الحضاريِّ»، و«الدِّين والفلسفة والتَّنوير»، و«الإسلام في مواجهة حملات التَّشكيك»، و«الإسلام في مرآة الفكر الغربيِّ»، و«الإسلام في عصر العولمة»، و«الحضارة فريضة إسلاميَّة»، و«الدِّين والحضارة»، و«الإسلام وقضايا الحوار»، و«هموم الأمة الإسلاميَّة»، و«الإنسان والقيم في التَّصور الإسلاميِّ»، و«الإسلام في تصوُّرات الغرب»، و«الإسلام والغرب»، و«الإسلام وقضايا العصر»، و«الإسلام وقضايا الإنسان»، و«مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة وضرورات التَّجديد» وهذه بعض مؤلَّفاته.
لو نظرنا في العناوين الَّتي حملتها هذه المؤلَّفات –ناهيك عمَّا في بطونها من تفاصيل علميَّة- لعرفنا أيَّ همٍّ كان يحمله الرَّجل –رحمه الله تعالى- في عقله وقلبه!، لقد كان مهمومًا بإظهار الوجه الحضاريِّ المشرق للإسلام، وكان مشغولًا بدعوة أهله إلى أن يقوموا من انغلاقهم على أنفسهم ليأخذوا بأسباب الدُّنيا، وكان داعيًا إلى ألَّا يكونوا أسرى لتفكير واستنتاج يقبل الأخذ والرَّدّ، وكان مُصَوِّبًا لحقيقة علاقة الإسلام بالدُّنيا وأهلها ممَّن آمنوا به، ومن لم يؤمنوا به.
ولهذا الفهم العجيب، والقريحة الأعجب كان للرَّجل دوره البارز في الحوار بين المؤسَّسات الدِّينيَّة، فانطلق يقود الحوار الفكري والدِّينيِّ والحضاريِّ بين أتباع الأديان والحضارات إلى الأمام، مؤكِّدًا في انطلاقه هذا إنَّه لا سبيل للتَّعارف والتَّعايش إلَّا بالجلوس إلى مائدة الحوار، وفتح قنوات اتِّصال بين المؤسَّسات الَّتي تقود الفكر، وتشكِّل الوعي، وليؤكِّد ما يحمله الأزهر ورجاله في وجدانهم من أن المواطنة وما تقتضيه من حقوق وواجبات هي الحلُّ الإسلاميُّ الأمثل لمشكلات العصر من طائفيَّة، وعصبيَّة، وقلَّة موارد أو ندرتها في بقاع من الأرض دون بقاع، إلى غير ذلك مما يشهده هذا الكوكب.
لقد كان الرَّجل –رحمه الله وغفر له- تطلُبه المناصب ولا يطلبها، ويتعفَّف عنها، فتسعى له، وكان جمّ التَّواضع مع سعة علمه وعلوِّ منزلته، مترفِّعًا عن كلِّ الصَّغائر، وقد قدَّم فيه فضيلة الإمام الأكبر، شيخ الأزهر أ.د.أحمد الطَّيِّب، شهادته لله وللتَّاريخ، قائلًا: «جميعُ المناصب العلميَّة والرسميَّة الَّتي تقلَّدتَّها هي الَّتي سَعَتْ إليك، وأُشهد الله أنَّك لم تسعَ إليها، وكنت مدرسةً في العلم والخلق الرَّفيع والإنسانيَّة العليا يندر تكرارها في هذا الزمان»
في الحقيقة إن قلمي ليعجز عن سرد ما للرَّجل من أثر فكريٍّ حضاري، ولكن أرجو أن أكون وفَّيته بعض حقِّه الواجب على التَّلاميذ عرفانًا بفضل أهل العلم وجميلهم، فوداعًا أيها الأستاذ الكبير محمود حمدي زقزوق، المفكر الزاهد، والفيلسوف الفقيه، والعالم العابد.