الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

حوارات

السيد يسين: مصر لم تنجز شيئًا في ملف تجديد الخطاب الديني بسبب ازدواجية التعليم.. صراع الهويات في العالم العربي بلغ حالة التوحُّش.. «العمدة في إعداد العدة» وثيقة اعتمد عليها الإرهابيون في تكفير الحكام

المفكر الكبير السيد
المفكر الكبير السيد يسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في 6 نوفمبر 2016، نشرت مجلة «الفيصل» حوارًا شاملًا مع المفكر الكبير السيد يسين.. «البوابة نيوز» اختارت أجزاء من هذا الحوار الذى أجراه محمد الحمامصى، وتعيد نشره، إذ تشعر أن السيد يسين ما زال بيننا ويطرح رؤيته في قضايا عدة، وتشغل بال المثقفين والسياسيين وأهل الفكر.. فإلى الحوار:
تنطلق رؤى وتحليلات المفكر وأستاذ علم الاجتماع السياسى السيد يسين سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا من قراءات علمية عميقة للقضايا والظواهر والأحداث والمشكلات التى يتعرض لها المجتمع المصرى والعربي. فهو يتابع التغيرات والتطورات في مناهج البحث جنبًا إلى جنب الدراسات والبحوث التى تتناول ما يطرأ في المنطقة العربية والعالم، ويجيد طرح الأسئلة ولا ييأس من البحث عن إجابات لها.
«الفيصل» التقته في القاهرة فكان هذا الحوار الشامل.


■ في مقال لك بعنوان: «الهويات المتوحشة» أشرت إلى «نظرية التكفير».. هل هناك نظرية للتكفير؟ ومن وضعها؟ وما الأسس التى تقوم عليها؟
- نعم هناك نظرية متكاملة للتكفير، فقد سبق لى أن قمت بدراسة متكاملة لكتب المراجعات التى قامت بها الجماعة الإسلامية التى بلغ عددها ٢٥ كتابًا.
واكتشفت أن أحد المنظِّرين لهذه الجماعة اسمه الدكتور فضل -وهو اسم حركى لأحد قيادات الجماعة من محافظة الفيوم- له كتاب بعنوان: «العمدة في إعداد العدة» عدد صفحاته (٥٠٠) صفحة، يتضمن نظرية كاملة في التكفير، وقد لخص كتابه ونظريته هذه في وثيقة «ترشيد العمل الجهادى في مصر والعالم». وفى تقديرى أن هذه الوثيقة النظرية هى الأساس الذى اعتمدت عليه الجماعات الإرهابية المتطرفة في تكفير الحكام وتكفير المجتمعات؛ لأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية وتكفير غير المسلمين، بل تكفير بعض المسلمين أيضًا بشروط معينة. وتقوم هذه النظرية لهذا الإرهابى المتطرف المنظِّر على مقدمة أساسية، يقول -وهنا أقتبس من كلامه-: «والإسلام مُلزِم لجميع المكلفين من الإنس والجن من وقت بعثة النبى -صلى الله عليه وسلم- وإلى يوم القيامة». ومن ثم فالبشر جميعهم منذ البعثة النبوية إلى يوم القيامة أمة الدعوة «المدعوون لاعتناق دين الإسلام»، فمن استجاب منهم لذلك فهم «أمة الإجابة».
ويسترسل الدكتور فضل فيقول: «ومعنى إلزام دين الإسلام أن الله سبحانه لن يحاسب جميع خلقه المكلفين منذ بعثة النبى -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة إلا على أساس دين الإسلام»، والنتيجة هي: «فمن لم يعتنق دين الإسلام أو اعتنقه ثم خرج عن شريعته بناقضٍ من نواقض الإسلام، فهو هالك لا محالة إن مات على ذلك». واستند الدكتور فضل في هذا الحكم الخطير على آية قرآنية هى قوله سبحانه وتعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ [آل عمران: ٨٥]. وأيد كلامه باقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو كافر».
وهكذا يمضى فضل في نظريته التكفيرية ويبنيها على مقولة مبدئية هي: «إن الإسلام يتحقق بتقديم مراد الرب على مراد النفس، فإن ينقص أو ينتقص بمخالفة ذلك والمخالفة درجات: أولًا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء يسيرة فهذا مرتكب الصغائر و«هى العصيان»، ثانيًا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء كبيرة فهذا مرتكب الكبائر و«هو الفسوق»، ثالثًا من قدم مراد نفسه على مراد ربه في أشياء عظيمة فقد وقع في الكفر». وهنا غموض في المفاهيم الأساسية التى تقوم عليها النظرية وهى الصغائر والكبائر والأشياء العظيمة.
ويسترسل في مجال تعداد المحظورات الشرعية ليصل إلى أن «اضطرار البعض إلى عمل لجوء سياسى لدى الدول الأجنبية «بلاد الكفار الأصليين»، فيكون بذلك قد دخل في الكفر تحت حكم الكفار وقوانينهم باختياره». ويقرر أن «الشريعة لم تُبِحْ لآحاد الرعية معاقبة عامة الناس أو إقامة الحدود عليهم»، وهذه بدهية لأنها من مهام الدولة المعاصرة، غير أن الوثيقة قررت أنه لا يستثنى من ذلك إلا إقامة المسلم الحدود على عبيده، فأى عبيد وفى أى عصر! لقد ولَّى عصر العبيد إلى غير رجعة.
إن فهم النص الجهادى الأصلى الذى ورد في الكتب المطوّلة السابقة للدكتور فضل مثل: «العمدة في إعداد العدة»، و«الجامع في طلب العلم الشريف»، و«التضحية في التقرب إلى الله تعالى»، وخصوصًا الكتاب الأول الذى انبثقت منه وثيقة نظرية التكفير؛ يحتاج إلى تحليل نقدى فقهى على أساس أن هذه النصوص التكفيرية إنما تقوم أساسًا على القياس الخاطئ والتأويل المنحرف، والكشف عن ذلك في النص الجهادى الأصلى ضرورة أساسية؛ لأنه بناء على هذه الآليات عُدّ قتل المسلمين وغيرهم حلالًا وكذلك استباحة أموالهم وممتلكاتهم.
ويقول الدكتور فضل: «من لم يدخل الإسلام يجوز قتاله في الداخل أو في الخارج». إذن نحن أمام نظرية للتكفير، وهذه النظرية هى التى اعتمد عليها تنظيما القاعدة وداعش، وبخاصة أن كتاب «العمدة في إعداد العدة» صادر عام ١٩٨٨م متوافقًا مع بدايات تأسيس تنظيم القاعدة.


■ تعددت مقالاتك حول «الهوية» سماتها ومشكلاتها وخرائطها وصراعاتها. هل الإشكالية الآن في المشهد العربى «التوحشي» وراء هذه الهوية بكل أنماطها؟
- صراع الهويات قائم في كل العصور، غير أنه كان كامنًا ولم يسفر عن وجهه إلا في لحظات تاريخية فارقة، لكن المشكلة الآن أن الهويات متصارعة في العالم العربى وقد انتقلت من حالة التوازن إلى حالة الصراع. هناك تعدد في الهويات في العالم العربي؛ هناك الهوية القبلية مقابل الدولة، وهناك الصراع بين الأعراق ونموذجه الصراع بين الأكراد والعرب وبين العرب والبربر، ونجد صراعًا مذهبيًّا مستعرًا بين الشيعة والسنة. غير أنه إذا تأملنا ما يحدث في ليبيا بين القبائل والدولة، وما يحدث في اليمن بين الحوثيين وأهل السنة، وما يحدث في سوريا على وجه الخصوص بين النظام العلوى وبقية طوائف الشعب؛ أدركنا أن صراع الهويات انتقل من حالة الصراع العنيف إلى حالة التوحشا في التاريخ العربى الحديث والمعاصر.
حالة التوحش التى أصبحت ممارسة يومية لكل الأطراف المتصارعة في سوريا، لكن النموذج الرئيس لحالة التوحش يمثلها تنظيم «داعش». بيت القصيد أن المسألة بدأت بمفهوم تكفيرى لغير المسلمين، ثم تحولت الجماعات التكفيرية إلى جماعات إرهابية سوَّغت لنفسها ممارسة أفعال العنف حتى ضدّ بعض المسلمين «الذين يوافقون الطاغوت على سياساته»، وبالطبع كل الأجانب غير المسلمين يجوز قتالهم في الخارج والداخل، فانتقلنا من التكفير إلى التوحش، والتوحش يتجلى في داعش وخلافتها الإسلامية المزعومة التى أسسها وشكّلها الإرهابى «أبو بكر البغدادي»، ومارس التوحش علنًا بقطع رقاب الرهائن وإحراقهم وإغراقهم.
لقد اكتشفت كتابًا لأحد منظِّرى القاعدة اسمه «أبو بكر ناجى -اسم حركي- بعنوان: «إدارة التوحش.. أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، يقدم تعريفًا لهذه الإدارة أنها: «إدارة الفوضى المتوحشة» ويضع مهماتها بوصفها نظرية، وما نراه من ممارسات داعش يمثل تطويرًا لنظرية التكفير التى وضعها الدكتور فضل وأمثاله من فقهاء الإرهاب، ولنظرية التوحش التى وضعها «أبو بكر ناجي».
■ تجديد الخطاب الدينى أحد أبرز توجهات النظام في مصر الآن، فهل تم إنجاز شيء في هذا الشأن؟
- في مصر لم ينجز شيء لأسباب متعددة: أولًا المشكلة الحقيقية هى ازدواجية التعليم التى تعد أحد أسباب التطرف الإيديولوجي، فمن ناحية تعليم دينى خالص يساعد على بلورة رؤى للحياة تتسم بالانغلاق، ومن ناحية أخرى تعليم مدنى مشوه. التعليم الدينى يقوم على النقل ولا يقوم على العقل، اجترار التفسيرات القديمة وعدّها معاصرة، وهذا غير صحيح، والتعليم المدنى يقوم على معلومات تافهة. هذا الفصل بين التعليم الدينى والمدنى إحدى المشكلات، لا بد من فضّ هذه الازدواجية في التعليم ليصبح هناك نظام تعليمى واحد قائم على تأسيس العقل العلمى الناقد الذى يطرح كل شيء للمساءلة، وليس على العقل الاتباعى الذى يقوم على التلقين والحفظ.


■ ثانيًا: كيف يمكن للأزهريين إعمال العقل في تفسير وتأويل النصوص الدينية؟
- إن التعليم الدينى التقليدى أكثر استعدادًا لقبول وتصديق الخرافات التى تنسب لمصادر دينية، وهى ليست كذلك. إضافة إلى آلية التأويل المنحرف للنصوص الدينية التى تطبقها الجماعات المتطرفة، التى تضفى الشرعية الدينية على أهدافها وأساليبها الإجرامية، ومن بينها استحلال أموال غير المسلمين، وشرعية قتلهم سعيًا وراء تحقيق هدفهم الأسمى وهو الانقلاب على الدول العلمانية، وتأسيس الدول الدينية التى تقوم على الفتوى وليس على التشريع، تحت رقابة الرأى العام، بواسطة مجالس نيابية منتخبة في سياق نظام ديمقراطى يقوم أساسًا على الانتخابات الدورية وتداول السلطة، وحرية التفكير والتعبير والتنظيم وسيادة القانون.
■ كيف السبيل للإصلاح والتعليم الدينى التقليدى مستمر؟
- لا بد من تنقية المناهج الأزهرية في المعاهد والكليات من الخزعبلات والحكاية الخرافية، والقيام بثورة معرفية تركز على هذه المناهج العتيقة البالية، سواء في المعاهد الأزهرية التى تخصصت في تعليم الفكر الديني، أم في مؤسسات التعليم المدنى الزاخرة بقشور العلم، التى لا محل فيها لفكر دينى مستنير، ثانيًا لا بد من التطبيق الدقيق لقواعد التفسير وقواعد التأويل بشكل عصري.
إن هذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية، أهمها على الإطلاق تأسيس العقل النقدى الذى يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدى المسلّم بها في علوم الفلسفة والمنطق. وتشتدّ الحاجة إلى تكوين العقل النقدى بعد ثورة المعلومات التى أدت إلى تدفقها في كل المجالات المعرفية على شبكة الإنترنت؛ مما يستدعى في المقام الأول عقلًا نقديًّا؛ لأن المعلومات لا تكوّن معرفة، ومن هنا أهمية تصنيف هذا الفيض من المعلومات للتفرقة بين الصحيح والزائف والمتحيّز والموضوعي. والركن الثانى تجسير الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على أساس مبدأ وحدة العلوم، والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الدينى لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء. والركن الرابع والأخير استخدام الاكتشافات الجديدة في علم اللغة والمنهجيات المستحدثة في تحليل الخطاب لتأويل الآيات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر.


■ ألا تعتقد أن سطوة الفكر السلفى المتطرف والمتشدد في الشارع العربى تؤشر إلى هزيمة المثقفين والقيم الثقافية الليبرالية؟
- لا، الفكر السلفى جيوب فكرية متخلفة، مقضى عليها بالزوال؛ لأنها مخالِفة لروح العصر، ومخالِفة للفهم الصحيح للدين الإسلامي. في مناقشتى مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قلت له: أنا أرى التركيز في الحوار مع العالم على المقاصد العليا للإسلام؛ القيم الأساسية للإسلام في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وأضفت أنه في سورة الحجرات هناك آية يقول فيها المولى عز وجل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: ١٣]، يمكن أن تصبح أيقونة لحوار الحضارات لو طرحناه على العالم، الله عز وجل يقول: {جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا لا لتتقاتلوا، وليس لكى يحارب المسلمون العالم كله ليدخلوه في الإسلام، هذا مضاد لروح الإسلام، ومن ثم عند الحوار مع الآخر نذكر له هذه الآية القرآنية التى تصلح شعارًا لحوار الحضارات.
فريق من الناس، وليس الناس عمومًا، غزت عقولَهم البسيطة أفكارُ السلفية الرجعية، وأثرت في ملبسهم وسلوكهم، وليس صحيحًا أنهم بأغلبية تهدد الأمة المصرية، هم أقلية وليسوا أغلبية، وأقلية منقرضة. وحين تتابع الفتاوى التافهة الجاهلة لشخص مثل ياسر برهامى تدرك أن هذا عقل متخلف، وهذه العقول المتخلفة تأثيرها سيزول مع الزمن بارتفاع مستوى التعليم والوعى الاجتماعي والثقافى.
■ أشرت في أكثر من موضع في كتاباتك إلى تشابه نظام الإخوان المسلمين مع نظام ولاية الفقيه في إيران، هل ذلك وراء تقارب الإخوان وإيران؟
- لا، لقد قلت: إن نظام الإخوان أشبه بنظام ولاية الفقيه، ولكن على الطريقة السنّيّة. لماذا تطرقت لهذا الأمر؟ لأن الإخوان قبل ثورة ٢٥ يناير عملوا مشروعًا حول تصوراتهم للدولة التى يريدون إقامتها وأرسلوه إلى المثقفين المصريين، وكنت من بين المثقفين الذين تلقوا نسخة من المشروع‏،‏ واكتشفت من واقع النصوص أنه ليس سوى مشروع لتأسيس دولة دينية في مصر في ضوء مذهب ولاية الفقيه على الطريقة السنية‏؛ إذ نصَّ المشروع على تشكيل مجلس أعلى للفقهاء تُعرض عليه قرارات رئيس الجمهورية وقرارات المجالس النيابية لإقرارها‏، فإنْ وافق كان بها، وإن لم يوافق فلا. وقد تخلصت الجماعة من هذا البند في المشروع بعد تلقِّيها انتقاداتٍ عنيفةً على هذا النص، لكن بعد أن كانت قد كشفت النقاب عن وجهها الحقيقي‏.‏


■ في كتابك «نقد الفكر الديني» تتبعتَ النماذج المتعددة للفكر الديني، التى لخصتها في عبارة «من يوتوبيا الإخوان المسلمين إلى جحيم داعش مرورًا بالفكر التكفيرى لجماعات مثل جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية»، أَمَا من سبيلٍ لحل إشكاليات الفكر الديني؟
- الفكر الدينى متعدد؛ هناك فكر محافظ، وآخر متشدد، وآخر إصلاحى وتجديدي… إلخ، هناك مراوحة كاملة من التباينات والاختلافات في الفكر الديني، الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ على عبد الرازق، كانوا من المجددين، سيد قطب كان تكفيريًّا متطرفًا، بل هو إمام المكفرين وصاحب نظرية التكفير الأساسية، إذن هناك تعدد وفروق فيما يسمى «الفكر الديني».
وقد مارستُ نقدًا للتوجهات المتطرفة في هذا الفكر التى لو تحققت لأدت إلى تفكك الدول العربية والتغيير القسرى لهويتها الوطنية وتوجهاتها القومية. وبدأتُ هذا المشروع النقدى في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، وجمعت أبحاثى في هذا المجال في كتاب من جزأين عنوانه: «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة: أسئلة القرن الحادى والعشرين»، نشرتْه في عام ١٩٩٦م المكتبةُ الأكاديمية بالقاهرة. وخصصتُ الجزء الثانى لأبحاثى النقدية للفكر الدينى وجعلت عنوانه «أزمة المشروع الإسلامى المعاصر». وعلى الرغم أن هذا الجزء ضم أبحاثًا ومقالات عدة في هذا المجال، فإن أهم ما فيه في الواقع هو تسجيل دقيق للمناظرة التى دارت بينى وبين يوسف القرضاوى لأسابيع عدة على صفحات جريدة «الأهرام». هذه المناظرة لم أخطط لها، وبدأت بمقالة نقدية عنوانها «الحركة الإسلامية بين حلم الفقيه وتحليل المؤرخ»، وسرعان ما ردّ عليها الشيخ القرضاوى بمقالة حاول فيها تفنيد آرائى حول أوهام إحياء نظام الخلافة الإسلامية، ورَدَدْت عليه بمقال عنوانه: «الإمبراطورية والخليفة»، واختتم الشيخ القرضاوى المناظرة بمقال أخير له عنوانه: «تعقيب حول مقال الإمبراطورية والخليفة».
هذه المناظرة كانت حوارًا فكريًّا، مقدمة رصدى لتحول الفكر النظرى لجماعة الإخوان إلى فكر إرهابى يقوم على تكفير غير المسلمين، بل على تكفير المسلمين أنفسهم، وخصوصًا الحكام الذين لا يحكمون بالشريعة الإسلامية والجماهير المسلمة التى تستسلم لهم ولا تخرج عليهم. وقد تبنَّت هذا الفكر التكفيرى جماعتان إرهابيتان مصريتان هما: جماعة «الجهاد»، و«الجماعة الإسلامية»، اللتان قامتا بأعمال إرهابية عدة، كان أبرزها واقعة ذبح السياح في مدينة الأقصر.
وهناك كتابات نقدية مبكرة لغيرى أبرزهم عبد الرحيم على، الذى كان يكتب منذ الستينيات وجمع وثائق عديدة عن الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وله كتب في نقد الفكر الدينى مبكرة جدًّا عن الإخوان المسلمين وغيرها، وهناك كُتَّاب آخرون، لقد حُلِّلَت الظاهرة وتُوصِّل إلى صُلبها، كاشفة أن هذه الجماعات جماعات إرهابية تتستر وراء آيات قرآنية وأحاديث وتمارس «التأويل المنحرف والتأويل الخاطئ».


■ ما مصير استراتيجيتك الثقافية التى طرحتها منذ ما يقرب من عامين لإصلاح المنظومة الثقافية المصرية؟
- هذه الاستـراتـيـجـــيـة خـضـعـت لـحـوار مجتمعي؛ أولًا وزير الثقافة السابق الدكتور جابر عصفور، كوّن لجنتين متخصصتين، قمتُ بطرح الإستراتيجية أمامهما وجرت مناقشتها، ثم طبع منها آلاف من النسخ وعُرضت على الشباب لإجراء حـوار مجتمعي، ونتائج هذه الحوارات موجودة في الوزارة، لكن لم تستكمل العملية ومن ثم لم تخرج الحوارات بوثيقة عمل. وعقب خروج جابر عصفور من الوزارة ومجيء وزير آخر انتهى الأمر، كالعادة، ليس هناك استمرارية؛ الوزير الجديد لا يستكمل مشروعات الوزير السابق ويبدأ من الصفر، تقليد بيروقراطى مصرى أصيل.
■ هل ترى إمكانيةً لتطبيق استراتيجيتك الثقافية؟
- لو أن هناك إرادة سياسية أو إرادة ثقافية حتمًا كانت ستتوافر الإمكانية لتطبيقها.
■ وماذا إذا كان الخطاب الثقافى تقليديًّا ويفرض سيطرته على الخطاب الحداثى العصري؟
- نعم، هناك خطاب تقليدى يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربى، ويخوض معركة شرسة مع الخطاب العصرى الذى يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدى أنه يتشبَّث بالماضي، وهذا الماضى المختار المتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب، وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها ومن غير أن يعرف القوانين التى تحكمها، ومن سماته إلقاء مسئولية القصور والانحراف على القدر أو على الضعف البشرى أو على الأعداء، وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيرًا ينزع -في بعض صوره البارزة- إلى اختلاق عوامل مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغضّ النظر عن إمكانية التطبيق، أو بُعدها عن الواقع.
أما الخطاب العصرى فهو خطاب عقلاني، يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر وللمجتمع وللعالم، وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة يأخذ منها بلا عقد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراءات نظرية المؤامرة التاريخية الكبرى، كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، إضافة إلى أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكرى والتفاعل الحضاري، ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه، ولا يدعو إلى استخدام القوة والعنف، ولا يمارس دعاتُه الإرهابَ المادى أو الفكري.


■ في رأيك: هل تتمدد إيران في المنطقة في ظل الانقسام بين أهل السنة؟
- التمدد الإيرانى يرجع إلى أمور دولية وإقليمية، وليس له علاقة بوضع السنة، لكن له علاقة بأوزان القوى النسبية في الدول العربية، هناك محظورات على إيران دوليًّا ألا تتمدد على حساب دول أخرى، وهناك محظورات إقليمية أيضًا عليها، لن تقبل الدول بالاستعمار أو الاحتلال أو السيطرة من جانب إيران، لكن محك المسألة ميزان القوى النسبى لكل دولة وقدرتها على إيقاف التمدد، هذه هى الفكرة، وليس للأمر علاقة بكونها شيعية أو سنية.
■ في الختام، كيف ترى مصر الآن؟
- مصر تسير على الطريق الصحيح، إذا تجددت المؤسسات والأحزاب والمنظمات وأصبح لدى المثقفين فضيلة التجدد المعرفى، لا بد من التعرف إلى التغيرات العالمية ومنطق هذه التغيرات، العالم يتغير ولا يعرفون عن هذا التغير شيئًا، والنخب السياسية القديمة والجديدة لا بد أن تتجدد، والأحزاب لا بد أن تصبح أحزابًا حقيقية، وأن تمارس على نفسها النقد الذاتى لكى تخرج برؤية تعمل عليها وفقًا للدولة التنموية التى شرعت في البدء.