الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

خطاب مسيئ للمرأة وخروج على المجتمع.. أغانى المهرجانات حكاية المهمشين على عتبات التاريخ.. المنع فكرة أباطرة خائفين على عروشهم.. احذروا من ينصبون أنفسهم حُماة للهوية المصرية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قبل البدء في الكتابة، حاولنا قراءة قدر لا بأس به عما كتب عن المهرجانات، فالكتابة هى قراءة من نوع ما هكذا نراها، وخلصنا إلى أن لدراسة المهرجانات اقترابات عديدة، وهى أخاذة في الزيادة والتوسع، وتضمُ لها حقولًا معرفية جديدة تهتم بالظاهرة وتعالجها من منظورات سوسيولوجية وثقافية وسياسية وغيرها. 
ونحن هنا بصدد الاشتباك مع كثير مما أنتجته هذه الاقترابات من نتائج وتحليلات لظاهرة المهرجانات. يرى البعض في المهرجان انحدارًا للذوق العام، ويرى فيه آخرون فنًا شبابيًا نجح في جذب الفئات الأقل عمرًا، بتركيز جلى على الإيقاع، ويذهب آخرون لنقد مضمونه، ليتحدثوا في الأخير عن سرديات كبرى لهذا الصنف الغنائي، وإطار عام يُكتب من خلاله، مع تركيز على قضايا القوة، والاستعداد للتضحية، وخيانة الحبيبة، والرفاق، إلى آخره، وهو في التحليل الأخير عندهم خطاب شعبى وشعبوى في آن، مع ما تحمله الكلمتان من حمولات سلبية جمًا.


ما الجديد؟
ما الجديد الذى نطرحه نحن خلافًا لما كُتب؟ الإجابة بسيطة: إنه العنوان «المهرجانات: الخارجون من التاريخ يعودون». هذا طرحنا.
فلسنوات تمدد الهامش حتى ابتلع مساحات جغرافية وسكانية كبيرة، هامش يحيا تحت الخط الأدنى للشروط الإنسانية، حاول هذا الهامش بطرق مختلفة مرارًا وتكرارًا التمرد والخروج من هذا الأفق الجغرافى والتاريخى الضيق، والعودة لكتاب آصف بيات «الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟» تكون وافية في شرح الكيفية التى قاوم بها سكان الهامش - منشأ المهرجان - التهميش والإقصاء المتعمد الذين مورسا ضدهم لعقود، لكن بشكل عام كانت المحاولات تُصنع بأدوات صلبة، فقوبلت على الدوام بالصد والوأد في مهدها، فما المختلف هذه المرة، ولماذا يحقق الهامش وأصواته هذا الاختراق للمركز؟
في رأينا الموسيقى هى الإجابة عن هذا السؤال، فوجودية الموسيقى ترتكز في بداهة أنها لا تحتاج لغة لتفهمها، وما هو أوضح أنها لا تحتاج ثقافة أو قومية أو طبقة معينة لنفهما، بإمكان المرء أن يحب الأغانى الهندية رغم أن معرفته بالهند ولغتها لا تتعدى أميتاب باتشان، الموسيقى هنا خصيصتها الرئيسة التجاوز لكل ما هو خصوصى ثقافى، لذا فهى عالمية، وإنسانية بالمقام الأول المجرد، ولهذا السبب برأينا لم يجد المهرجان أى صعوبة في اختراق كل الطبقات الاجتماعية في مصر، بل انتشر بسرعة الصاروخ وفى سنوات قليلة وفى كل البقاع.
عاد الهامش إذًا بأصوات مطربيه إلى هامش الحديث والجدل، هل كان قاصدًا؟ هل قصد حمو بيكا ومجدى شطة وحسن شاكوش وأوكا وأورتيجا وفيجو الدخلاوى وغيرهم أن يتحرشوا بالمركز؟ أم كل ما قصدوه هو الغناء، حتى لو نفى عنهم «حلمى بكر» ونقابة المهن الموسيقية لقب المغنواتية، ومرة أخرى من يحدد ما هو غنائي؟ وما المعايير؟
بالنسبة لنا، المهرجان هو تجلى لعودة المهمشين إلى قلب التاريخ، عودة الخارجين من التاريخ والجغرافيا، مرة أخرى إلى ما يستحقونه، أن يحكوا حكايتهم، والحد الأدنى من احترام الحقوق لأفراد المجتمع هو الحق في حكاية الذات، قد نتعارك بعد ذلك على مضمون الحكاية، ونتائجها على المجتمع، لكن ما لا يجب أن نختلف عليه البتة، هو حق الجميع في حكاية الذات. المهرجان برأينا هو حكاية المهمشين، والملفوظين من على عتبات التاريخ، بلا صفة ولا وصف، الفقراء الذين يعيشون على حواف المدينة، بلا زاد للغد، أو أمل فيه، هؤلاء هم كُتاب وملحنى المهرجان.

من القلقون؟ ولماذا يقلقون؟
ظهرت المهرجانات في العام ٢٠٠٧، ومن ثم انتشرت على فترات زمنية متعاقبة، خاصة بعد ثورة يناير ٢٠١١، ولكن انتشارها الأهم جاء مع تبنى شركات الاتصالات لمهرجانات في إعلاناتها واسعة الانتشار، وتطور المهرجان بقفزة أخرى مع دخوله لقاعات السينما، مع نجوم شباك، ومع تزايد انتشار المهرجانات واستقطابها لقطاع كبير من الشباب، بدأ البعض في القلق، لكن من القلقون؟ ولماذا يقلقون؟
هذا السؤال في الحقيقة من أهم ما يجب طرحه عند الشروع في قراءة هذه الظاهرة، فقد حُملت المهرجانات في رأينا أكثر مما تحتمل، فباتت هى سبب الجريمة والتحرش والانفلات الأخلاقى في المجتمع، وشنت لأجلها حملات من هنا وهناك لوأد هذا الانتشار الهائل للمهرجان، الذى زاحم بل وتخطى أباطرة الغناء المتربعين على عروش وقصور الغناء لعقود مرة أخرى، من القلقون؟
يتمثل القلقون في رأينا في ثلاث فئات، الأولى: المنصبون أنفسهم حماة للهوية المصرية، وينطلق هؤلاء من فكرة أساسية، وهى أن المهرجانات تهدد الهوية المصرية، لأنها تضرب في جذور الشخصية المصرية، وبعيدًا عن جدل تعريف الهوية المصرية وتقاليدها، لكن في رؤية هؤلاء لنوع من الفن على أنه تهديد لهوية ترسخت في رأيهم لآلاف السنين، يطرح سؤالًا بديهيًا، أى هوية هذه التى يهددها نوع غنائي؟ لننتهى بالقول: إن هذا الخوف الهستيرى من المهرجان، لا مبرر له كخطر على هوية ترسخت منذ آلاف السنين. 
الفئة الثانية: هم أباطرة الفن، أولئك الذى يخافون على عروشهم التى زُلزِلت بفعل نجوم المهرجان - هؤلاء الملاقيط بلا نسب ولا نسبة في أعين نقادهم من أباطرة الصناعة، يكيل هؤلاء الفنانون وتتقدمهم نقابة المهن الموسيقية النقد اللاذع للمهرجان باعتباره انحدارًا للذوق العام، وإن اتفقنا تجاوزًا على هذا الاتهام، فهل يحق لنا أن نسأل، هل ما سبق المهرجان من غناء في سنواتنا الأخيرة كان رفعًا للذوق الفني؟ هل ساهمت الأغنية اللبنانية بتقاليدها في رفع الذائقة الفنية للجماهير لتأتى المهرجانات لتنحدر بها؟ ولماذا لا تُهَاجم الأغنية اللبنانية رغم أنها تحمل ذات الانحدار في رأى كثيرين؟ بل وأين النقابة من دعم الفرق الموسيقية المستقلة؟ ولماذا تموت كثير من هذه الفرق الواعدة تحت وطأة المبالغ الهائلة التى تُطلب منها؟ لماذا لا تدعم النقابة البدائل الفنية التى ترى فيها رفعًا للذوق العام لتواجه المهرجان؟ لماذا يكون الحل دائمًا قمعيًا يستسهل قصف القلم بديلًا عن صناعة قلم أفضل منه؟ ما دامت هذه الأسئلة بلا إجابات، فإننا نكون ملزمين بالنظر لاتهامات وحملات هؤلاء الأباطرة بكثير من الشك والريبة، لأننا لا يمكن أن نأمن على اللحن والكلمة اللذين يسموان بالروح بأيدى أشخاص لا يمانعون في الحجر على آخرين لمجرد امتلاكهم القوة والقانون في لحظة ما.
الفئة الثالثة: هى البرجوازية ومعها جزء من الطبقة الوسطى، التى ترى في المهرجان تهديدًا لتقاليدها، وغزوًا للخارجين كما في يوتوبيا توفيق، إننا لا ريب نعيش جزءًا من هذه اليوتوبيا، ولدينا جماعة متخيلة بلفظة أندرسن، ترى في نفسها جماعة متميزة ذات نطاق جغرافى وثقافى مختلف عن الهامش الذى يأتى منه المهرجان، متحرشًا بيوتوبيا البرجوازية، لكن مع هذه الاتهامات للمهرجان بالتحرش بالمركز، فإننا لا نتخيل أن مستمعى المهرجان هم من الطبقة المهمشة وفقط، الأرقام التى تأتى من منصات المشاهدة والسماع الإلكترونية تشى بلا ريب، بأن المهرجان تمدد بشكل أفقى إلى كل الطبقات الاجتماعية، المهمشة والمتوسطة والعليا في السُلم الاجتماعي، وإن كان انطلاقه الأساسى يأتى من الهامش بشكل عمودى إلى الطبقات الأعلى.
هل ندافع عن المهرجانات؟
سؤال يستحق الطرح بعد ما قلناه في الأعلى، لكن بلا مواربة نجيب بالإيجاب، لكن لماذا ندافع عن المهرجان؟ هذا هو السؤال الأهم، ونجيب بأن نقول: إن المهرجان في رأينا لا يعدو أن يكون ظاهرة غنائية ترتبط ببنى العصر الحداثى الذى نحياه، والذى يُعلى من السرعة في إيقاع الحياة، وبالتالى في إيقاع الغناء والموسيقى، وإن عدنا لتطور الأغنية المصرية سنلاحظ أن الإيقاع السريع هو السمة المتطورة مع مرور الأيام، ولنسأل كم عدد المستعدين لسماع أغنية «أنت عمري» لأم كلثوم حتى قبل ظهور المهرجان؟ العدد يقل بالتأكيد مع مرور السنوات، ليس انحدارًا للذوق الفنى بالضرورة، بقدر ما هو داعى العصر وضرورته.
النقطة الأخرى المهمة هى في سؤال ماذا نطلب من صناع المهرجانات؟ نحن أمام هامش يعيش بنمط معين، ولديه ثقافة ترسخت عبر سنوات، وينتج فنونًا تعبر عنه، والمهرجان هو أحد هذه الفنون، هل نطلب من صناع المهرجان أن يتركوا غناء المهرجان، ويعتكفوا على كتابة سيمفونيات؟ هل بإمكان مؤلفى وملحنى المهرجان اليوم أن يكتبوا كأحمد رامى ويلحنون كبليغ حمدي؟ وتجاوزًا حتى لو استطاعوا، هل سيسمع لهم الهامش؟ كيف لمن لا يجد ما يصلُب أوده أن يفكر في وجوده وماهيته؟ إنه السياق يصنع مواضيعه، في بيئة كل من فيها يبحث عن البقاء على قيد الحياة، يجب أن تكون قضايا الرجولة والصداقة هى المرتكز.



في نقد خطاب المهرجان: أين المعركة؟
في الحملة على المهرجان تهويل إذًا، فالمهرجان كالراب، فنون حداثية تنتشر في العالم كله وليس في مصر وحدها، لكن إن كان ثمة معركة فهى تدور في الأرض الخطأ، ومع العدو الخطأ، المعركة في رأينا تدور الآن ضد المهرجان، كفن ونوع غنائي، لكن في رأينا المعركة الحقيقة ليست هنا، وإنما محلها هو خطاب المهرجان وليس المهرجان ذاته، ندرك تمامًا أن خطاب المهرجان تواجهه اتهامات كثيرة بالإساءة للمرأة، والتقليل منها، والاحتفاء بالجريمة في بعض السياقات، وغيرها. وهى اتهامات لا تخطئها أذن تسمع هذه المهرجانات. 
وهنا قضيتنا الأساسية، وهى أن الساحة الفنية والأدبية والثقافية، في مصر تواجه أزمة في خطابها، وهو خطاب ينحدر يومًا بعد الآخر، وظاهرة عامة لا ترتبط بفن بذاته، الأمر سيان في السينما والرواية والأغنية، وهذا ما يجب أن يفهمه الجميع، الأزمة عامة وشاملة، ولا يكمُن حلها أبدًا في منعٍ هنا أو هناك، بل بتصحيح الخطاب، وإيجاد خطابات بديلة، تحمل ثقافة وفكرًا مختلفًا. ومرة أخرى الحل ليس في كسر الأقلام بل في صناعة أقلام بديلة.
أسسنا الفقرات السابقة، لفكرة أن منع المهرجان من الوجود، هى فكرة لا تتحلى بالحد الأدنى لا من الحكمة وحدها، بل حتى من البرجماتية، فالمنع في عالم اليوم، هى فكرة على أقل تقدير تتسم بقدر كبير من السذاجة، في عالم معولم أصغر حتى من القرية الصغيرة. لذا فإننا في هذا المقال الثانى والأخير من هذه السلسلة، نطور فكرة أخرى للتعاطى مع الظاهرة الناشئة، وهى فكرة لا تعالج الآثار السطحية للظاهرة، ولا تنحو للاشتباك المباشر مع الظاهرة، بل تثبر عمقها، لتبحث عن حلول لجذور الأزمة لا نتائجها.

المهرجان بين الحرية والخصوصية: جدل لا ينضب
يواجه المهرجان كفن مشكلات أكبر تتعلق ببنية المجتمع نفسها، وهو ما يخلق وجاهة للنقد الموجه للمهرجان من نقاده المعتدلين، ففى مجتمع كمجتمعنا يواجه بالأساس مشكلة في احترام الخصوصية الفردية، يجعل ذلك من المهرجان وخطابه شيئًا غير قابل للتحكم في انتشاره، فيمكن للمرء أن يسمع المهرجان في وسائل المواصلات أو في الطريق بشكل غير متحكم فيه، وهنا نتحدث عن ضعف في تَشرُب ثقافة الخصوصية والحدود الفاصلة بين ما هو فردى وما هو آخروي.
وبالتأكيد من يسمع بعض أغانى المهرجانات سيتأكد أن جزءًا كبيرًا منها يحمل خطابًا مسيئًا للمرأة، وخارجًا عن كثير مما يُجمع عليه قطاع عريض من أفراد المجتمع، وهو القطاع الذى يرى في المهرجان خطرًا على مستقبل أبنائه، وإذا نافحنا في المقال الأول عن حق المهرجان وصناعه في الوجود، فمن المنطلق ذاته نَشرع هنا لندافع عن حق هؤلاء في ضرورة تنظيم الفضاء الذى ينتشر فيه المهرجان.
لا يمكن أن يُمنع المهرجان من الفضاء الخاص للفرد، فتلك مسألة متعلقة بالحرية الفردية التى يلزمنا التأكيد على احترامها، ولنفهم ولتفهم النقابة أن محاولة المنع القطعى لهذا الخطاب تكاد تكون مستحيلة في عصرنا الحالي، لوجود الإنترنت ببساطة، لذا فالمنع فكرة ساقطة أخلاقيًا وتؤسس لأنواع أوسع من المنع، قد تطال موسيقى الأندرجراوند والسينما المستقلة وغيرها فيما بعد، وإذا توسعنا في المنع، فعن قريب سنكون أمام «صوابية فنية» على غرار «الصوابية السياسية» التى تجتاح العالم اليوم، والتى ستؤدى لا محالة لخنق المجال الفنى وتقييده، وهذه المرة سيكون الخنق بأيدى رجالات المجال أنفسهم في نقابة الموسيقيين وليس غيرهم.
لذا فما قد ندعو له هنا، لن يتعدى التأكيد على احترام الخصوصية لمن لا يستمع للمهرجان أو يعترض على خطابه، والتأكيد على حقه، في ألا يسمع المهرجان جبرًا في الشارع أو وسيلة المواصلات أو غيرها، من حق محبى المهرجان ومعجبيه في سماع المهرجان وحضور حفلاته وغيرها، لكن طالما لا يُجبر الآخر على سماعه، وعلى صناع المهرجان وعلينا جميعًا أن نتشرب هذه النقطة كأبجدية من أبجديات الخصوصية.
ومرة أخرى سيتضح أن الإشكال متعلق هنا بشكل نظرى بسؤال كيف نحترم الحرية الفردية التى تؤكد على حرية الجميع عن التعبير عن ذواتهم بما يناسبهم، وفى الوقت نفسه احترام الخصوصية للآخر الفرد، وأيضًا للمجتمع ككيان له منظوماته الأخلاقية والثقافية والدينية؟

في قابلية المهرجان للتطور
في فيديو أخير لأحد أهم مطربى المهرجانات حاليًا «حمو بيكا» يتحدث بيكا عن فكرة مهمة تخدم ما نرمى إليه في هذا التقرير، حين يتحدث عن أن المشكلة تكمن في أن النقابة لم تخاطبهم أولا لتعديل الكلمات، أو نصحهم بتحسين خطاب المهرجان، بل قامت بالمنع مباشرة، ويذكر كيف أن زميله «حسن شاكوش» قد غير كلمات في أغنيته الأخيرة بعد توجيه النصح له بذلك.
بالتأكيد لست مع هذا النوع من التدخل في تصحيح المحتوى، لكن أوردت كلمات بيكا، لنفهم أن كُتاب المهرجان، مستعدون لهذا النوع من تصحيح الخطاب، إن وجه الحديث معهم لا بالتعالى والمنع، بل بنقاش لتصحيح الخطاب، وبعض رسائله. وكلام بيكا يؤكد على حقيقة يراها متتبعو ظاهرة المهرجانات، وهى أن المهرجان تطور على منذ النشأة ككلمات وكموسيقى، وبالتالى هو قابل دائمًا لهذا النوع من المراجعات، وهو ما ينقل المسئولية ويرمى بالكرة في ملعب النقاد الموسيقيين الجادين، أو حتى أولئك المدعين حماية الذوق العام، في توجيه نقد جوهرى لصميم خطاب المهرجان، ونقد ما يُرى فيه من إساءة لشرائح مجتمعية عديدة، وبالتالى الإسهام في تطويره وتحسينه.



خاتمة
جاء انتشار المهرجان كانتصار للمهزومين، لكنه انتصار ما قبل الموت، فحقيقة الأمر أن المهرجان هو نداء أخير من سكان الهامش لما يعيشونه، من تردى على كل الأصعدة، بلا مبالغات أو تحسس للجمال في هذا الوسط المليء بالقبح، والذى يعانى من التهميش والإقصاء.
ولدى رغبة جادة في ألا يُفهم المقال أنه احتفاء بالمهرجان وخطابه، أحاول هنا أن أخرج من هذا الاستقطاب الحاد بين مؤيدى المهرجان ومعارضيه، لسنا بهذا الصدد من الجدل ولا نسلك مسالكه، لدينا ثلاث حقائق حاولت المقالتين التأكيد عليها. الأولى: أن منع المهرجان لا يمكن أن يُفهم كقرار حكيم، بل نراه مخالفا لحق هؤلاء في حكى الذات. الثانية: التأكيد على مشكلات خطاب المهرجان، وما يحمله من قيم سلبية تضر يقينًا أكثر مما تنفع. الثالثة: التأكيد على أن المهرجان يجب أن يُفهم كصرخة القاع، حتى يُسمع صوته، فخطاب المهرجان في النهاية مُعبر عن حالة تردى وصل إليها القاع، وليس مُنشِئًا لها.

الجهاد الأكبر لا يُغنى عن الجهاد الأصغر
ورغم أننا نرى أهمية كبرى لنقد خطاب المهرجان وتفكيكه بما يطور منه ليكون أكثر صدقًا في التعبير عن الطبقات التى يتوجه لها، لكننا نرى في هذا النقد رغم ذلك جهادًا أصغر لا يغنى عن جهاد أكبر.
والجهاد الأكبر في رأينا هو تطوير الهامش، ففى حين قد يرى البعض في المهرجان وخطابه فرصة لجلد الهامش، وتصفية حسابات معه، من مثقفين برجوازيين يتأففون من هذا الحيز الذى يقض عليهم مضجعهم أحيانًا بمشاهد وسلوكيات تخالف ما هم فيه وعليه من ترف العيش وسمو ثقافوى مدعى، لكننا نرى في انتصار المهرجان كهامش هزيمة لسكان الهامش أنفسهم، نحن لا نعتقد حين نتحدث عن نجاح الهامش في اختراق المركز، لا نعتبر هذا الانتصار ذا جدوى مستقبلية، خاصة لسكان الهامش، ورغم أننا نرى في المهرجان تعبيرًا عن الهامش، فلا نراه تعبيرًا حقيقيًا وكاملًا عن الهامش وتطلعاته، فللهامش تطلعات حياتية في العيش الكريم والترقى الاجتماعي والثقافى بالتأكيد لا يعكسها صناع المهرجان لأنهم بالأساس يأتون من أسفل السلم الثقافى الهامشي، لكن ما ميزهم هو امتلاك الأداة الأقوى للتعبير وهى الموسيقى.
لذا ففى رأينا يجب أن يعود الهامش ليكون أولوية، لأن الهامش حتى عند من يتغنون بجمالياته، هو قنبلة موقوتة على كل الأصعدة الاجتماعية والثقافية، وهو هامش يتمدد، وتنحدر بناه الثقافية، فالمهرجان كفن ورغم تطوره الموسيقي، لكنه تراجع تعبيرى عن الأغنية الشعبية التقليدية، التى حملت على الدوام خطابًا تعبيريًا أقوى خاصة من حيث الكلمات وعذوبتها، لكن يتعلق الأمر في رأينا بتردى الهامش نفسه وسوء أحواله.
بدون حل الأزمة الحقيقية، في تطوير الهامش وتحديثه، سيظل الهامش يخرج علينا بوسائل تعبيرية أخرى، قد لا يكون المهرجان في المرة القادمة لكنه شيء آخر، يجب أن نكف عن التعامل مع المهرجان والهامش بشكل عام كمرحاض نغطيه مرة بعد المرة حتى لا نشم رائحته السيئة، في غض الطرف عن الهامش ومشكلاته تأثيرات مستقبلية لا يعرف أحد عقباها، سيكون من الجيد إذا نظرنا للمهرجان كإنذار لن أقول مبكرا، لأن الإنذارات التى خرجت تعبيرًا عن الأزمة قديمة وأكثر من أن تعد.