الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

"أشباح بروكسل.. للإبداع عنوان"

القس عيد الشارونى
القس عيد الشارونى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أين أنتِ مِنّا أيّتها الحُرِّية؟! نتوق إلى شمسك لتشرق علينا وإلى نورك ليزيل وَهْم الأشباح من رؤوسنا ويمحو وحش الظلام من افئدتنا. نعم، إنَّ الحريَّة جنّة العقل ومحرك الخيال، إنَّها العنوان الذى يطلق العنان للإبداع بلا خوف من رقيب أو متربِّص. وما أحوج العقل العربيّ المعطوب إليها لتزيل التّراب الذى انهال عليه والتشوهات التى انتجت قُبحًا وتطرّفًا يصعب الفكاك منه.
إنَّ رواية (أشباح بروكسل)، للكاتب اللامع محمد بركة، هى تجسيدٌ حقيقيٌّ لِما يمكن للعقل أن ينتجه وللخيال أن يتأمله والروح أن تتذوَّقه. لقد أعادت هذه الرواية الروح للقوة الناعمة لأبناء النيل، حيث إن هناك صُحفا ونقّادا عربا سلّطوا عليها الضوء لسبب طرحها العديد من الإشكاليات الخاصة بالتشوّهات التى ترسّخت في الذهنيّة العربيّة في رؤيتها لذاتها وللآخَر. من عظمة الرواية أنه يمكن قراءتها من مناظير مختلفة؛ ولكنّى هنا أقدّم قراءة وجوديّة لذاتٍ قلقةٍ تبحث عن وجودها في صراع بين حضارتين «من أنا وأى شيء جئت أبحث عنه في أوروبا ؟».
يتألّق خيال المؤلّف ليقدّم لنا هذه الأيقونة الروائية، التى يغلب عليها السرد الرومانسى في الوصف والدخول إلى العمق ليقدّم نقدًا للذّات العربيّة من خلال نظرتها لنفسها وللآخر، وتقديم ومضات عن الذهنيّة الغربيّة ونظرتها للعرب من خلال تجربة صحفى، مكاوى، أزعجت حريّة التعبير عن أفكاره زملاءه في العمل، فقاموا بنقله للعمل كمراسل صحفى للجريدة في بروكسل.
ذهب مكاوى الحالم إلى بروكسل ليكتشف عالمًا جديدًا لم يتوقّعه من خلال احتكاكه بالمجتمع العربى هناك، فنقل إلينا رسالة مباشرة عن طريقة حياة اللاجئين العرب في بروكسل واستغلالهم لنظام المعونات الاجتماعيّة وجنوح البعض للتطرّف والقيام بعمليات إرهابيّة في الغرب وردّ فعل الغرب من خلال نزول الجيش البلجيكى للشارع، والقبض على العديد من العرب حتى غير المتورطيّن منهم. فتمّ القبض على مكاوى نفسه وترحيله من بلجيكا. كما يعرض المؤلف رؤية الغرب للعرب من خلال حوارات مكاوى مع البلجيك ونظرتهم البدائية للعرب. كما نرى مكاوى يقع في حب «كارلا» البلجيكية ومبادلتها له نفس الحبّ.
جديرٌ بالملاحظة أنّ فكرة الصراع تغلب على بطل الرواية، فالذات الإنسانيّة تعيش صراعا وجوديا في دوائر مختلفة. فنرى أن مكاوى، بطل الرواية، في صراع مع زوجته وينتهى الأمر بالطلاق، ثمّ صراع آخر في العمل حيث أراد التعبير عن آرائه بحريّة فتمّ إبعاده، ثمّ صراع آخر بين حضارتين ومنهجين في التفكير فقُبض عليه وتمّ ترحيله. إنّ الصراع هو أحد المكوّنات النفسيّة للشخصيّة الإنسانيّة التى تبحث عن ذاتها وحريتها في مقابل آخر يريد قولبة الذات وسلب إرادته.
يقدّم الكاتب علاجًا للنفس المجروحة بفعل الزمان وهو الحبّ. فالحبّ هو أساس الوجود، فالروح تحتاج إلى روح أٌخرى تتّحد بها، لقد أحبّ مكاوى كارلا «قلت لها إنّ مجرد وجودها بهذه الحياة هو بحد ذاته هدية عمرى وإننى ممتّنٌ لله كثيرًا على أنّه خلقها». 
فيرى الكاتب أنّ الحبّ هو أحد الحلول للإنسان في رحلة بحثه عن ذاته، فالحبّ هو رفيق النفس في رحلتها وهو المصدر لكلّ طاقة إيجابيّة وتذوّق للحياة في جمالها. الحبّ هو الجنّة التى يبحث عنها أبناء آدم على مر العصور والأجيال.
كما يقدّم الكاتب ذاتًا أخرى قلقة، يمثّلها في الرواية المتطرّفون الذين قاموا بأفعال إرهابيّة في بلجيكا مدفوعين بعبوديّة وفهم أصولى للنصوص الإسلاميّة. هذه الذّات القلقة وبفعل تشوّهاتها النفسيّة، في رحلة البحث عن الوجود والهوية، انحرفت ولم تر في الآخر سوى الشّرّ والكُفر، لهذا فإنّ رؤيتها هى محو الآخر من الوجود بكلّ شراسة وأخذ ذلك الطابع الدموى، فنعتهم الكاتب بـ«ماضغى الأكباد».
يطرح الراوى التباين بين حضارتين وعقليتين: حضارة مركزيتها تقديس النّص والعمل من أجل الحياة الأٌخرى مقابل حضارة مركزيتها تقديس الإنسان والعمل من أجل الحياة الدنيا. فحضارة الشرق ذات التاريخ المجيد في لحظة ما تجمّدت وتخنّدق العقل العربى حول النّص وصارت الحياة الأٌخرى هى الألف والياء مما أدى إلى تسخير كلّ شىء من أجل الدّين، مع أنّ الدّين سُخِرَ لأجل الإنسان ليقدّم له المعنى والرجاء.
أدى تجمّد العقليّة العربيّة إلى إهمال العلم وصار العربى عبئًا بدلًا من أن يكون رافدًا ومساهمًا في الحضارة العالمية. فبدلًا من العمل من أجل رُقيّ أوروبا، صار هناك «القرآن من أجل أوروبا»... «يومها أمسك البلجيكى الُمنحدر من أصول مغربية بالميكرفون وهو يهتف بالهولندية التى يتقنها: الإسلام جاء ليحكم بلجيكا، ومن لا يعجبه هذا الكلام، فليحرق نفسه في الجحيم». ومن هنا قام هؤلاء بعمليات إرهابيّة داخل الغرب الذى احتضنهم وقدّم لهم المأوى والحريّة، مقابل ذلك نجد الغرب الذى يقدّس الإنسان يقدّم بيئة آمنة لهم؛ بل وحسب الرواية تتطوّع مجموعة من البلجيك لتقديم خدمات إضافيّة للمهاجرين لتسهيل الحياة لهم. إنّ تقديس الروح الإنسانيّة والعمل من أجل الدنيا هو مقدّمة لتذوّق الحياة الأخرى، بينما تدمير الحياة الدنيا هو تدمير للحياة الأخرى.
قدّم الكاتب أيضًا عرضًا دراميًّا للعلاقة بين الشرق والغرب ورؤية كلّ منهما للآخر من خلال خبرته مع اللاجئين العرب في بلجيكا ونظرة البلجيكين للعرب. وفى تقديمه لهذا الواقع لم يلجأ لتجميل طرف أو تقبيح طرف آخر؛ بل قدّم تحليلًا موضوعيًّا، حيث أراد أن يرسل برسالة مضمونها أنّ الموضوعيّة في تشخيص أمراض وعلّات المجتمع هى الأساس لوضع روشتة علاجيّة ناجعة. نرى أنّ الكاتب قدّم ثنائية: حيث الحوار/ الصدام، تيار نخبوى متسامح مقابل تيار شعبى مشوّه داخليا وخارجيًّا. قدّم التّيار المتسامح، وهو تيّار نخبوى ثانى في الحضارة العربيّة، مجسّدًا في شخصيّة مكاوى، ذاك الحالم المتسامح مع نفسه ومع الآخر. فعندما ناقشته كيارا، وهى تمثّل النظرة الغربيّة التى لا ترى في الشرق إلّا ما يصدّره قاطعو الرؤوس والمتطرفون في الثقافة العربيّة، فأجابها: «هل نمضى للمستقبل بعقول وقلوب مفتوحة أم نترك قلّة من المهوسين على الجانبين يسجوننا خلف قضبان الكراهية التى صنعها الحدّاد قديمًا؟» فمكاوى يمثّل الثقافة العربيّة الأصيلة المتسامحة التى لها إسهامات نوعيّة في جذور التنوير الغربيّ نفسه ويمثّله عرب معاصرون أمثال مجدى يعقوب وأحمد زويل ممن أضافوا للحضارة الغربيّة. مقابل هذا التيار النخبوى المضىء، يقدّم لنا الكاتب التيار الآخر، وهو للأسف يمثّل تيارًا كاسحًا في الثقافة العربيّة المعاصرة، مشوّهًا نفسيًّا يتبنّى رؤية شبحيّة عن الغرب خصوصا. يمثّل هذا التيار مجموعة من المهاجرين من المنطقة العربيّة في بروكسل حيث لا يرى في الغرب سوى النساء العاريات «فيه النسوان تحل من على حبل المشنقة». كما يقوم اللاجئون العرب باستغباء الغرب والحصول على مساعدات اجتماعيّة عن طريق الغشّ والخداع، الأمر الذى يستغربه ويستنكره مكاوى المتسامح.
لنا أن نفخر بإبداع كاتبنا، محمد بركة، وجراءته في طرح علاقة الشرق بالغرب من خلال هذا القالب الساحر من الأدب والحميميّة في الاقتراب من الإنسان والمكان، وأود أن يلتقط أحد كتّاب السيناريو هذه الرواية لكتابة سيناريو لها وتقدّم في عمل سينمائى لزيادة الوعى بهذه القضيّة بين شرائح مختلفة من المجتمع.