الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ماذا لو نزع الواحد منا (النوَى)؟!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تحضرنى قصة بشأن موضوع المقال أعتبرها مدخلًا شارحًا لمضمونه وهى ترجع لبداية عهد الخلافة فى دولة المدينة، عندما كانت بساطة المجتمع تسمح للخليفة بتفقد أحوال الرعية بشكل مباشر، حيث دأب الصديق أبوبكر -حسبما تروى القصة - على التردد اليومى على سيدة عجوز لا تقدر على شىء فيرتب لها أمورها الحياتية، وهو ما لم يكن يعرفه سوى خلفه ابن الخطاب الذى سألته السيدة عندما وافاها خلفًا لصاحبه وقدم لها طعامها من التمر؛ هل مات صاحبك؟. وعندما رد عليها بسؤال ملؤه الاندهاش وكيف عرفت؟ كان ردها لأنك لم تنزع النوى كما كان يفعل.
هذا المدخل يلخص مفهوم «ثقافة الإتقان» التى لم تعد على قائمة أولويات معظمنا فرادى أم جماعات، ربما لكونها تحتاج إلى نفس طويل فى مجتمع ضاق صدره وباتت السرعة (بضم السين أو فتحها، لا يهم!) سمة من سماته، رغم وصم العصر بها وهو منها براء. ولعل آفة كلا الإنجاز السريع واستعراضه تمثل أولى معوقات الإتقان على المستويين الرسمى والشخصى. ومرجع ذلك فيما نرى يرتبط بالترويج لأكذوبة كليات القمة والقاع وانعكاسها على سلوكنا. فجميع التخصصات التطبيقية يتحصل المجتمع على إنجازاتها بشكل آنى فى حين يجنى ذات المجتمع ثمار العلوم الاجتماعية والإنسانية بعد زمن ليس بالقصير، الأمر الذى أقر فى الوجدان أهمية الإنجاز على حساب الإتقان ولو زمنيًا. ولقد انسحب ذلك على مفاهيم تمثل حجر الزاوية مثل «المراجعة» و«التخطيط» و«التوقيت». 
والواقع فالمراجعة تؤكد أهمية تراكمية الخبرات واستدعاء تطور الظاهرة أو العمل مناط الإنجاز، وتفيد بالطبع فى تلافى السلبيات وتعظيم الإيجابيات؛ لذا فالمؤسسات ذات التاريخ هى الأكثر قدرة على تفعيل هذا المفهوم والإفادة منه. وهو ما سيكون له أعظم الأثر حال التخطيط للقادم، ذلك أن التخطيط منذ أصبح علمًا وهو يمثل العمود الفقرى لأي عمل وضمان نجاحه، لكونه القادر على رصد الإمكانات واللوجيستيات المتاحة وتوزيعها بالشكل الذى يحقق الهدف المأمول. أما التوقيت فيظل دومًا هو ضابط الإيقاع القادر على توكيد زمن الإنجاز ومراحله، بل يمكن من خلاله استشراف مستقبل العمل ومداه المرجو. وما عداه يجعل مراحل العمل فى حالة من التخبط الكفيل بخروجه شائهًا أو ضعيف البنية. ويحضرنى فى هذا المقام حادث شهير لافتتاح مرحلة لأحد المشروعات فإذا بالمسئول يسأل عن المدة المتبقية لبقية مراحل العمل، ويبدو أنه خلط بين إتقان العمل والتحفيز عليه عندما أصدر أمرًا لا مرد له بضرورة الانتهاء من العمل فى موعد حدده هو، وما يزال المستفيدون منه يعانون الأمرين بسبب العجلة غير المبررة لإنهائه.
ومن ثم فإن الالتزام بمفردات الإتقان بعيدًا عن شهوتى مسارعة الإنجاز أو بريق الاستعراض من شأنه أن يفضى إلى المفهوم الأسمى تميزًا وعلوًا وهو «الإبداع». فذاك الأخير إنما يمثل دونما شك حالة متفردة لا تأتى من فراغ بل هى عبارة عن خلاصة الموهبة الخاصة المدعمة بكل مفردات العمل الإيجابية ومن ثم إتقانه. ولا أغالى إذا قلت إن ثقافة الإتقان تمثل لدى البعض صنوًا لمفهوم الإبداع، ولو استعرضنا أى عمل إبداعيًا فى شتى المجالات الحياتية لوجدناه قد تأسس على قيم ثقافة الإتقان. 
تلك الثقافة التى يراها البعض سلوكية فى المقام الأول حيث ترتبط بالتنشئة الاجتماعية. فى حين نراها لا تقف عند حد التنشئة بل هى كتاب مفتوح يمكننا فيه قراءة بنية المجتمع فكريًا وأخلاقيًا وتاريخيًا فضلًا عن رصد متغيراته التى تنعكس أول ما تنعكس على الذوق العام ولغة الحوار والفنون والآداب. لذا لم يكن ابن خلدون مغاليًا عندما جعل الغناء أول ما ينقطع من أسباب العمران. وفى المجمل فإن إعلاء قيم ثقافة الإتقان يستحق أن يصبح فرض عين بغية الوصول بالمجتمع لأسمى مراتبه، إعمالًا لقاعدة التصوف الشهيرة «من يدرك ما يطلب، يهن عليه ما يبذل». 
ويبقى أن اختتم بما كان ينبغى البدء به وهو تحية القارئ الكريم فى أول مقالاتى بجريدة «البوابة» الغراء، بيد أنى آثرت سوقها فى النهاية، لأؤكد التزامى بما دعوت إليه فى مقال اليوم كعهد القارئ بى فى كل المنشورات، التى شهدت إسهاماتى سواء فى بر المحروسة أو خارجها. 
* أستاذ الحضارة المصرية القديمة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية.