الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حسين المرصفى والديكارتية المصرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يجمع مؤرخو الفلسفة على أن «ديكارت (1596م-1650م)»، أحد أعمدة الفلسفة الحديثة، وإن كتابته ولاسيما «خطاب في هداية الذهن» و«خطاب في المنهج» و«كتاب التأملات» من أهم الكتابات المؤسسة للفكر الأوروبي في العصر الحديث.
وقد أجمع النقاد على أن أثر هذه الكتابات مازال حيًا في معظم المدارس الفلسفية المعاصرة، وكيف لا وهو القائل «إن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس».
وأن أول برهان يمكن للمثقف أن يحتج به لإثبات وجوده هو أنه يفكر «أنا أفكر إذًا أنا موجود»، وأن معيار صحة الأفكار: هو وضوحها وتميزها بغض النظر عن صدقها أو كذبها أو صلاحها وفسادها، وأن المفكر الواعي هو الذي لا يقبل أى من الكلمات والألفاظ إلا بعد إدراك معناها ودلالتها المباشرة وغير المباشرة، أما السياقات والأنساق، والمفاهيم الشائعة والموضوعات المطروحة والقضايا المسارة، فكل ذلك لا يمكن للذهن قبوله إلا بعد تحليله ثم إعادة ترتيبه، ثم مراجعة مضمونه للتأكد من خلو كل ما سبق من الغموض، أو الإلتباس أو ما لا يمكن تعقله وفهمه والإحاطة به.
وقد أراد «ديكارت» من كل ذلك، تخليص الذهن من كل ما يعيقه عن التفكير السليم وإدراك ما يدور من حوله. حتى يصل إلى ما نطلق عليه الوعى الحقيقى الذى يُمكّن الإنسان المثقف المفكر من الحكم وتقييم ما يعرض عليه من آراء وتصورات وأخبار.
وإذا كان «ديكارت» قد نجح في إيقاظ العقل الأوروبى وتحريضه على النقض والنقد، فإن معظم قادة الفكر في الثقافة العربية قد تأثروا بهذا المنهج سواء في حركة الإحياء النقدية أو في تصديهم لقضايا المجتمع والسياسة، الأخلاق، الدين بل والأمور الحياتية أيضًا. ومن الطريف أن مثل هذه الموضوعات قد إستثنها «ديكارت» من ميدان تطبيق منهجه، وحجته في ذلك صعوبة وصول الذهن للأدلة والبراهين التى تكشف عن جوهر هذه المعارف والموضوعات، أى أنها ملتبسة وغامضة بالقدر الذى يعرض من يحاول تطبيق منهجه فيها إلى مشكلات وملابسات تحول بينه وبين الوصول إلى الحقيقة التى ينشدها الذهن. 
ومن أشهر المفكرين الديكارتيين المصريين هو الشيخ «حسين أحمد المرصفى (نحو 1810م-1890م)» وهو من ضمن المفكرين المجددين الذين زج بهم النقاد في معية المحافظين. وأن من يقرأ كتاباته الأدبية، ويطالع محاضراته اللغوية، ويتصفح ما سطره عن تاريخ علوم اللغة والأدب بوجه عام سوف يدرك مدى دقته في تطبيق المنهج الديكارتى حيث الوضوح والتميز، والحرص على شرح الغامض وتبسيط المستغلق، غير أن وجهته الفلسفية يمكن إدراكها بوضوح في تصديه لأكثر المصطلحات والألفاظ ذيوعًا في مجتمعه. وهى التى ضمنها كتابه «رسالة الكلم الثمان» ذلك المُؤَلف الذى طُبع لأول مرة عام (1881م) ولم يلتفت إليه في الثقافة العربية إلا بعد 100 عام، فلم تظهر طباعته الحديثة إلا أعوام (1984، 1985، 2002).
ومن المؤسف أن أكابر نقادنا من كتاب الأعلام والمعنيين بتتبع تاريخ النهضة، قد أغفلوا هذه الشخصية العبقرية والقليل منهم قد ذكر أثره في كتاب «الوسيلة الأدبية في العلوم العربية» ووصفوه بأنه من بواكير الكتابات الموسوعية في تاريخ الأدب العربي، وتجاهلوا تمامًا كتاب «رسالة الكلم الثمان» الذى لم يهمله المستشرقون في مصنفاتهم، التى ذكروا فيها فضل «حسين المرصفي» وبيّنوا مكانته ضمن أعلام النهضة الثقافية المصرية، والفكر الفلسفى المبكر الذى عُنيَّ بتثقيف الرأى العام ولاسيما شبيبة الطبقة الوسطي.
وقد اتفق معظم المستشرقين المعنيين بدراسة الفكر الإسلامى الحديث على أنه رائد المدرسة التحليلية الديكارتية في الثقافة العربية. ومن أشهر النقاد الفرنسيين الذين تصدوا لهذا الكتاب «جلبير دولانو» الذى وصفه بأنه من بواكير الدراسات التحليلية في السياسة والأخلاق والاجتماع وأن مؤلفه تَعمّد في سرد أفكاره الإتيان بأسلوب شائق وطريف جمع فيه بين المعارف العلمية والأدبية والمأثورات اللغوية والنصوص الدينية، حتى لا يكون أسلوبه غريبًا على ثقافة عصره السائدة آنذاك.
وأضاف المستشرقون الألمان - على ما تقدم - أن كتابه «رسالة الكلم الثمان» كتبه عبقري، أزهري، عصامي، أعمى أنار به سبيل الفهم والدراية أمام الشباب وأيقظ بما أورده الحس النقدى في أذهان الشيوخ.
وقد مكنه جمعه بين الموروث من ذخائر التراث العربي، والطريف من الآداب والفلسفة الفرنسية من مناقشة قضايا أحيطت باللبس والغموض أمام المتخصصين والعوام على حد سواء، الأمر الذى جعله رائدًا من رواد الاستنارة في الثقافة العربية، وأحد المروجين للفكر الاشتراكى والسلام العالمى وفكرة الكوكبة (العولمة) التى أمن بها أتباع «سان سيمون (فيلسوف فرنسي1760م-1825م)» في مصر- أولئك الذين تتلمذ على يديهم في ميدان الفلسفة والاجتماع والتربية والأخلاق، والمناهج الفلسفية لكبار فلاسفة الغرب وعلى رأسهم «الفيلسوف الفرنسى ديكارت والفيلسوف الألمانى كانط (1724م-1804م)» -. وذلك لأنه اجتهد في تبيان دلالة مصطلحات «الأمة، الوطن، الحكومة، العدل، الظلم، السياسة، التربية والحرية».
وقد أثارت اجتهاداته في تحديد معانيها عشرات المساجلات الثقافية في النصف الأول من القرن العشرين بين الساسة والتربويين، المجددين والمحافظين في الدين والأخلاق، والليبراليين والاشتراكيين في النظم السياسية وقضاياها.
ولعل اتصال مفكرنا بالأستاذ الإمام «محمد عبده» أثناء تدريسه لتاريخ الأدب في مدرسة «دار العلوم» قد أيقظ في أريحيته الحس الوطنى وروح الانتماء والولاء لمشخصاته التليدة، وقد أثمرت مناقشاته مع الأستاذ الإمام حول فلسفة «ابن خلدون (1332م-1406م)» وتاريخ الحضارات للكاتب الفرنسى «فرانسوا جيزون (1787م-1874م) في إعادة توجيه آرائه نحو الإصلاح وتربية الرأى العام باعتبارهما السبيل الأمثل للنهضة وإيقاظ العقول الجامدة، وليس الثورات والكفاح المسلح والعنف في حل المشكلات ومحاربة الظلم وإقامة العدل وهو نهج «جمال الدين الأفغاني» الذى كان «محمد عبده» يتحفظ عليه ويخالفه مرارًا في الجلسات التى كانت تجمع بين الشيخين قبيل الثورة العرابية. 
والجدير بالإشارة أن «الشيخ حسين المرصفي» كان على دراية ووعى بمقصد خطابه وطبيعة رسالته، فها هو يصرح بذلك مؤكدًا أن غايته من تأليف هذا الخطاب هو إزالة أوهام الفهم من العقل الجمعى فيقول»، هذه رسالة ألتمس من قرائها أن يخصّوها بجانب عظيم من عنايتهم، حتى لا يفوت فهمهم شيء مما تشير إليه بعض عباراتها، وأن يكرروا النظر لاستثبات (التأكد من) معانيها. وبها أخاطب أذكياء الشبان من أهل هذه الأزمنة التى ابتدأتها الألطاف الحاضرة، شرحت فيها كلمات جارية على ألسنة الناس، لهجوا بذكرها في هذه الأوقات. 
أرجو قبول هدية.... لقبتها الكلم الثمان.
أهديتها لأولى النهي.... فتيان أبناء الزمان. 
«وللحديث بقية»