السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عبد الرحيم علي يكتب.. حرية الرأي والتعبير في الإسلام «3»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الله أعطى الإنسان الخيار بين أن يؤمن أو يكفر ومنحه العقل الذى يقرر به

الله تعالى لم يستنكف النزول بالحوار إلى مستوى عقلية البشر ليقيم عليهم الحجة

القرآن يرفض ما يسمىالآنحروب التوسع العدوانية

الإسلام يعلى من شأن الحوار ويجعله مدخلا لصحة العقيدة

المسلمون مأمورون بعدم المبادرة إلى القتال إلا إذا كان ردا لعدوان وقع عليهم

الإعراض وسيلة للمقاومة أمر بها الله صراحة فى العديد من الآيات

المبدأ القرآنى فى الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة

طوق النجاة لكل إنسان فى الإسلام «السلام عليكم».. فإذا قالها حقن دمه


أثار السجال بين الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، وبين الدكتور محمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، جدلًا واسعًا بعد أن فُهِمَ من طريقة رد الإمام أن قضية التجديد لا تخص أحدًا إلا الأزاهرة، وبدا أمام الجمهور أن فضيلته يغلق باب الاجتهاد على المفكرين والمثقفين من غير خريجى الأزهر، فى وقت تحتاج فيه البلاد إلى كل صاحب فكر، وكل من يؤمن بضرورة إعمال العقل.

وقد فتح هذا السجال الباب لحوار مخلص وصادق وأمين يبتغى خير هذه الأمة ورصد كل ما يحقق إعلاء شأن العقل ويمنح للفكر حريته وللإنسان كرامته.. وقد بدأنا هذه السلسلة، منذ عدد الثلاثاء، تحت عنوان «حرية الرأى والتعبير».. ونواصل ما بدأناه على مدى عدة أيام مقبلة، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


بسم الله الرحمن الرحيم

فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ

صدق الله العظيم

ما أكثر الآيات القرآنية التى تعلى من شأن الحوار، وتجعل منه مدخلًا أساسيًا لإقامة الحجة والبرهان على صحة العقيدة وصدقها.

إن الله تعالى يحتكم إلى العقل الإنسانى فى إثبات زيف الادعاءات الضالة ويتردد فى القرآن قوله تعالى «أفلا تعقلون».. «أفلا تبصرون».. «لعلكم تعقلون».. «آنى تؤفكون».. وأن يحتكم رب العزة للعقل البشرى، فإن هذا فيه تكريم لهذا العقل، واعتراف ضمنى من الله بأنه هو منبع حرية الإرادة.. هذا فى الوقت الذى تطالبنا فيه المؤسسات الكهنوتية بتعطيل وحجب التفكير ومصادرة حق المناقشة لعقائدها وأفكارها.

أدلة عقلية يستشهد بها الخالق جل وعلا على أنه الإله الذى لا إله معه، ويرد بهذه الأدلة على آراء بعض مخلوقاته من البشر الذين يعتقدون بوجود آلهة أخرى مع الله.. ولولا أن الله تعالى قرر لهم حرية التفكير وحرية الاعتقاد والرأى ما سمح لهم بأن يعتقدوا تلك الاعتقادات التى تسىء إلى جلال الله، ولولا أن الله تعالى ضمن لهم هذه الحرية فى دينه ما أجرى معهم هذا الحوار وما احتكم إلى عقولهم فى إثبات فساد تلك العقائد.

والله تعالى لم يستنكف أيضا أن ينزل بالحوار إلى مستوى عقلية البشر كى يفهموا ويعقلوا وتقوم عليهم الحجة، فمثلا، كانت لبعض أهل الكتاب تصورات عن إبراهيم، وأنزل الله تعالى الرد عليها فقال «يا أهل الكتاب لم تحاجون فى إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، ها أنتم حاججتم فيما لكم به علم فلِمَ تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون»

آل عمران/٦٦:٦٥.

إن فى ذلك أعظم تقدير لحرية البشر، وأى تقدير أعظم من أن ينزل الخالق جل وعلا قرآنا يرد به على آراء لبعض مخلوقاته، ويقنعهم فى الوقت الذى يستطيع فيه أن يدمر الأرض والسماوات.. ولكن بعض المخلوقات أعطت لنفسها امتيازات تفوق ما نتخيله، ولذلك فهم يستنكفون من الرد على خصومهم فى الرأى ويكتفون بإعلان كفرهم واستحلال دمائهم، والمقارنة فظيعة. الله تعالى يرد على دعاوى بعض خلقه بالأدلة العقلية، والكهنوت يستكبر عن النقاش مع أناس ينتمون مثله لآدم المخلوق من تراب (١).

إن الله تعالى لم يستنكف أن يسجل آراء خصومه التى لا تخرج عن السباب والتطاول وسوء الأدب.

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

«المائدة/٦٤».

«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ».

«آل عمران/١٨١».

وقال فرعون للمصريين: «وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِى صَرْحًا لَعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ».. 

«القصص/٣٨». 

«فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ».

«النازعات/٢٤».

كان من الممكن أن يصادر الله تعالى هذه الأقوال فلا نعلم عنها شيئا، وبعضها قيل فى عصور سحيقة قبل نزول القرآن، ولولا القرآن ما علمنا عنها شيئا.

إن المبدأ القرآنى فى الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة والرد على إساءة الخصم بالتى هى أحسن وليس بمجرد الحسنى.. يقول تعالى:

«ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ».

«النحل/١٢٥».

على النقيض تماما مما يذهب إليه البعض ممن أساءوا فهم رسالة الإسلام سواء من غير المسلمين أو نفر من أهل الإسلام المتشنجين والمتعنتين، فإن القرآن الكريم يرفض ما يسمىالآنحروب التوسع العدوانية، ومثل هذا النمط من الحروب مرفوض ومدان بل ومحرم طبقا للنص القرآني، ذلك أن الهدف الأسمى من الجهاد فى الإسلام هو حماية المستضعفين وإتاحة الفرصة لهم للإيمان عن قناعة ودون إجبار: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ».

(البقرة١٩٣).

والمسلمون مأمورون بعدم المبادرة إلى القتال، إلا إذا كان ردا لعدوان وقع عليهم، فالله سبحانه لا يحب المعتدين.. «وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

(البقرة١٩٠).

فالهدف فى البداية واضح وهو اتقاء الفتنة، وعندما يتحقق السلم والاستقرار، وبعد أن ينتهوا عن العدوان، فإن القتال محرم باللفظ الصريح.

العفو والصفح قيمتان يلح عليهما القرآن الكريم، وفى الحياة الإنسانية، القائمة على التعدد والاختلاف، متسع -وأى متسع- للتعايش السلمى فى إطار من التسامح وقبول الآخر:

«وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ، كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين»َ.

(التوبة: ٦٧).

المشرك المستجير، طالما أنه بعيد عن إلحاق الأذى وصناعة الضرر، وطالما أنه ملتزم، لا يجوز أن يتعرض للأذى أو الترويع، والقرآن الكريم يدين كل أشكال العدوان والبغي.. ومن المهم هنا أن نتوقففى إيجازلعرض مفهوم «الفتنة» التى يأمر القرآن الكريم باجتنابها والتصدى لها.

مفهوم الفتنة:

إن تتبع الاستخدام القرآنى لمفردة «الفتنة» بحث شائق وممتع، والذى يعنينا هنا هو التأكيد على الموقف الرافض للكلمة وما يترتب عليها. ولعل فى الاستعراض السريع لبعض الآيات ما يقود إلى حقيقة الفكرة التى تهدف إليها:

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين»..

«البقرة١٩١».

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ».

(البقرة١٩٣).

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا، وَمَن يَرْتَدِ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».

(البقرة٢١٧).

«هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ».

(آل عمران٧).

«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ».

(الأنفال٢٥).

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».

(الأنفال٣٩).

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ».

(الأنفال٧٣).

المعنى الدلالى للكلمة يقود إلى القلق والاضطراب والتوتر والزيغ، وهذه المفردات جميعا تعنى غياب الاستقرار والسكينة والسلام والأمان. بمثل هذا المنطق، فإن الحرب فى الإسلام لا تهدف إلى العدوان والتوسع والبطش، لكنها وسيلة لحماية الإنسان من القلق وكل ما يحول بينه وبين الحق المشروع فى الاختيار الحر لما يؤمن به ويعتقد فيه، وحرية الاعتقاد ومنع الفتنة هنا ليست مقصورة على المسلم وإنما هى حق لكل إنسان كرمه الله ومنحه شرف الانتساب إلى بنى آدم.

ليس أدل على الرغبة فى التسامح والتعايش السلمى والحرص على تجنب العدوان من التوجيه الإلهى للرسول بالإعراض عن معارضيه والترفع عن السقوط فى مستنقع الابتذال الذى يمارسونه.

الأمر صريح واضح: «أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا».

(النساء٦٣).

ما الذى يعنيه الإعراض هنا؟!. لا ينبغى للرسول أن ينخدع بالباطل الذى يروجون له ويدعون إليه، وعليه أن يمضى فى طريقه القويم مع الاستمرار فى وعظهم وإرشادهم ومحاولة استقطابهم والتأثير عليهم، لكن ذلك كله لا يعنى تجاوزا أو عدوانا.

ويتأكد المعنى هنا حتى لو حاول بعضهم خداع الرسول ذاته: «وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ، وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا».

(النساء٨١).

الإعراض والتوكل على الله بإحالة الأمر إليه، فليس مطلوبا من الرسول أن يهديهم بالقوة: «إنك لا تهدى من أحببت».

الاختلاف قائم بين الرسولعليه الصلاة السلاموبين من يخوضون فى آيات الله، لكن التوجيه الإلهى حاسم، نهى عن العنف والتوجيه بالمسالمة: «وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».

(الأنعام٦٨).

وفى ذات السورة آية تؤكد المعنى نفسه وترسخه: «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ».

(الأنعام١٠٦).


ويعلق الشيخ محمد الغزالى على الآية قائلا: هذه الآيات من ألمع الأدلة على احترام الإسلام لحرية الإرادة وبنائه الإيمان على الاقتناع المجرد(٢).

المهم أن تقدم الدعوة مقرونة ببراهينها التى تجعلها بصائر للناس، وأن تستثير العلم الفطرى المركوز فى الطبائع حتى يكون عونا لك. وأن تكون صورة متقنة لما تدعو إليه أو لما أوحى إليك. إن إعراضك عن المبطل، يتركه فى وحشة نفسية مقلقة قد تكون باعثة بعدئذ على تصديقك.

ولست مكلفا بحمل الناس على اليقين بالقوة ملكتها أو لم تملكها، فلا وزن لإيمان من هذا النوع.

ويستمر التوجيه القرآنى فى الدائرة نفسها: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».

(الأعراف١٩٩).

«الإعراض» أمر إلهى يتكرر فى كثير من الآيات، وفى آيات أخرى تظهر مفردة «ذر» للتعبير عن المعنى نفسه:

«وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ».

(الأنعام٧٠).

«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ، قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا، وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، قُلِ اللَّهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ».

(الأنعام٩١).

«وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ، سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».

(الأعراف - ١٨٠).

«فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ».

(المؤمنون٥٤).

«فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ».

(الزخرف٨٣).

«فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ».

(الطور٤٥).

«فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ، سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ».

(القلم٤٤).

«فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون».

(المعارج٤٢).

«وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا».

(المزمل١١).

«ذرنى ومن خلقت وحيدا».

(المدثر١١).

كل هذه الآيات، المدنية منها والمكية، تأمر الرسول عليه الصلاة السلام وتوجهه بترك أمر الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لله يوم يجمع الناس جميعا فلا يدع منهم أحدا، لا عقاب دنيوى ولا حجر على رأى مهما كان نوعه أو حجم المجاهرة به أو عدد الداعين إليه.

حدود وظيفة الرسول عليه الصلاة السلام:

القرآن الكريم يحدد للرسول عليه الصلاة السلام إطارا يؤدى من خلاله وظيفة الدعوة والبلاغ، كما أنه يحدد الأسلوب الأمثل لأداء هذه الوظيفة.

يقول تعالى: «ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون».

(المائدة:٩٩).

إنه البلاغ الذى يخلو من شبهة الإكراه، فكل امرئ متروك لضميره، وله أن يسلم أو يستمر فى كفره.

المعنى نفسه فى سورة «العنكبوت»: «وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ، وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ».

(العنكبوت:١٨).

الرسول عليه الصلاة السلام مطالب بالبلاغ، وهوبالنص القرآنىليس حفيظا أو وكيلا، فهو مبلغ دون أن يكون ملزما بالهداية، بل إن هذا البلاغ محدد وفق قواعد لا يغفل عنها القرآن: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ».

(الروم:٦٠).

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ».

(القلم:٤٨).

«وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا».

(المزمل:١٠).

«فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا».

(الإنسان:٢٤).

الصبر هنا سلوك حضارى يمثل أرقى درجات التحضر، وهو مقدمة لا بد منها قبل أن يصل التوجيه القرآنى إلى ذروته الشامخة:

«وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».

(فصلت:٣٤).

 

الهوامش:

١. أحمد صبحى منصور: حرية الرأى بين الإسلام والمسلمين ٥٤.

٢. محمد الغزالي: جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج ٢٩.