الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات من دفتر الوطن «٤».. ثلاث رصاصات دفنت أحلام الخونة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يأخذنا صلاح عيسى، في كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، بأسلوبه البارع في الحكى والسرد، إلى رحلة مدهشة في أعماق التاريخ، إلى حكايات تفيض بالشجن والقهر والأحزان، والخيانة والمقاومة، والاضطهاد والقتل، حكايات تنقل قارئها إلى الزمن الذى جرت فيه الأحداث بكل ملامحه وشخوصه ومبانيه وحوادثه وصحفه وفنونه، حكايات مليئة بالصور التاريخية النادرة لأبطال الزمان الذى ولى، بشرا وأماكن وحوادث.
تحت عنوان «مغامرات عبدالله أفندى بالمر»، جاء الفصل الرابع، ليكشف لنا المؤرخ الكبيرصلاح عيسى كيف اكتملت أركان المؤامرة، يروى فيه تفاصيل دقيقة للخيانة من الداخل والخارج معا، وكيف سقطت مصر تحت نير الاحتلال البريطانى، عندما أدرك الإنجليز أنهم في حاجة ماسة للتحالف مع قبائل البدو حتى يستطيعوا هزيمة «عرابى»، واحتلال البلاد، لكن كيف حدثت خيانة الوطن؟
أبطال المؤامرة
يصور المؤلف وصول أبطال المؤامرة إلى أرض الكنانه، وكأنة مشهد سينمائى مفعم بالإثارة.. 
قارب بخارى صغير يعبر قناة السويس، يحمل مجموعة من الرجال من بينهم أحد أبطال المؤامرة «عبدالله الأفندى» الذى دخل مصر في صورة تاجر جمال وإبل، يرتدى زى سورى، يتحدث اللهجة الشامية بإتقان.
لكنه في الحقيقة هو الدكتور «إدوارد بالمر» أستاذ ورئيس قسم اللغات الشرقية بجامعة «كامبردج»، الذى تم استدعاؤه من قبل المخابرات البريطانية.
و«بالمر» عالم كبير، لكنه يمتلئ بمشاعر إحباط غلابه، ولديه أحاسيس قوية بنقص في الثقة بالنفس، وشعور غامر بالاضطهاد، كما يعانى من مشكلات مالية معقدة، وصلت إلى حد الاقتراض.. والأهم أنه قام برحلات استكشافية في صحراء سيناء، ويعرف العربية كأهلها.
وفور وصوله إلى الأراضى المصرية، توجه إلى وزارة البحرية البريطانية، وهناك أخبره الوزير بطبيعة المهمه الموكلة إليه، مشيرا إلى تدهور الأوضاع في مصر، وضرورة التصدى لجيش «عرابى» ورفاقه الذين يطمحون في إنهاء الوجود البريطانى في مصر، وأخبره بنيتهم في الهجوم على مصر، موضحا بأن هناك جبهتين للغزو إحداهما شمالية من الإسكندرية، والأخرى شرقية من قناة السويس.
الرحلة المثيرة 
أوضح عيسى أبعاد المؤامرة، حينما شرح الوزير البريطانى طبيعة المهمة الموكلة لـ«بالمر»، وتتلخص في ضمان ولاء قبائل البدو لهم، وقال أنت تعرف هذه القبائل من خلال رحلاتك الاستكشافية في الصحراء، وتتقن اللغة العربية، وسوف أمنحك ما تريد، ما رأيك في خمسمائة جنيه دفعة أولى؟.
وبعد يوم بدأ «بالمر» أو «عبدالله الأفندى» رحلته المثيرة في تجنيد البدو لصالح الإنجليز، وكان للبدو آنذاك وضع خاص في مصر، كانوا عناصر تمارس السلب، وتغير على القرى والمدن، وقد نجح «محمد على» من قبل في القضاء على خطرهم بالرشوة والهدايا والدسائس، وأعطاهم أرضا ليزرعوها، ثم عادت بعض قوتهم في عهد «سعيد»، وفى عهد «توفيق» حصلوا على المزيد من الامتيازات، كالإعفاء من التجنيد، وعدم دفع الضرائب، بذلك بات العربان محط أنظار كل القوى المعادية للعرابيين، بدأ «الخديو توفيق» ينظر إليهم كحلفاء، وحاول أن يكون منهم جيشا، يواجه به الجيش الذى ثار عليه وأوشك أن يخلعه، وفى الوقت نفسه كان الإنجليز يطمعون في الاستعانه بالبدو في الحرب ضد «عرابى».
عيش وملح
في هذا المناخ بدأت مهمة «بالمر» التى انحصرت في إرشاء زعماء قبائل البدو، وتوزيع الهدايا والأموال عليهم وكسب ودهم، وذلك لضمان حيادهم في الحرب ضد «عرابى»، أو ضمهم نهائيا إلى الجيش البريطانى، خاصة أن ضمان ولائهم سوف يخلق قوة موالية لقوات الغزو لا يستهان بعددها ولا بانتشارها.
خلال أيام قليلة ذهل «بالمر» من نجاحه السريع في عقده اتفاقا مع زعماء القبائل يفضى بانضمام نحو أربعين ألفا من الرجال الأشداء، وأخذ «بالمر» يجوب القبائل، يوزع الهدايا ويناقش كل منهم في قيمة الرشوة التى يطلبها، وعندما يتفق مع القبيلة أكل معها «عيش وملح» على أن يحمى كل منهما الآخر، ولا يفض ما بينهما من تحالف.. ما جعله يرسل للوزير يبلغه بأنه يستطيع شراء خمسين ألف من البدو بخمسة وعشرين ألف جنيه، بواقع نصف جنيه للفرد!!
ومن فرط سعادة «بالمر» بما حققه كتب لزوجته رساله يقول «أظن أننا قد أصبنا الحظ ونلنا الثروة».
في غمار كل هذا كان «بالمر» يتحدث عن مجد بريطانيا العظمى، وعن اعتقاده بأنه يؤدى دورا عظيما يستهدف نشر الحضارة بين هؤلاء الهمج المتوحشين المصريين، ويخدم تقدم العلم، ومسيرة التاريخ، وكأنه وهو العالم المثقف كان يحاول أن يجد لدوره الخسيس غطاء فكريا، يحميه من الاحتقار المدمر للذات.
أدق المعلومات
يوضح المؤلف الجانب الآخر من الخيانة، ويقول: في الوقت الذى كان بالمر يقوم بمهمته على أكمل وجه، كان رفيقه في المؤامرة، ضابط المخابرات البريطانية «كابتن جيل» الذى ارتدى الملابس العربية، وأصبح فضيلة الشيخ «محمد جيل» يقوم بمهمة مشابهة في محافظة الشرقية، وكان يسانده «الخديو توفيق» وأنصاره من عناصر الأرستقراطية الزراعية، التى خانت الثورة بشكل سافر، وكانت تعمل من أجل هزيمة الجيش المصرى.
حيث التقى «جيل» بمحافظ بورسعيد، الذى أكد أنه يستطيع أن يشترى البدوى الواحد بجنيهين أو ثلاثة، ثم نجح «جيل» في إغراء الجاسوس «مسعود الطحاوى» بخيانة «عرابى» وكان هو الوحيد كما يقول المستشرق الأيرلندى –ألفرد بلنت- الذى ثبت على خيانته، بعدما تناول مبلغا كبيرا، وهو دائب على الخيانة منذ انتقال الجيش من كفر الدوار إلى التل الكبير.
ويذكر «بلنت» أن لديه ما يشبه الاعتراف من «الطحاوى» بأنه كان جاسوسا للإنجليز في جيش «عرابى»، وقد أثرت خيانته تأثيرا بالغ السوء، في هزيمة الجيش المصري في «معركة التل الكبير»، لأن عرابى قد كلفه بالقيام بعمليات الاستطلاع لحساب الجيش المصري، مما أعطى رجاله ميزة التواجد في معسكراته ومكنتهم من نقل أدق المعلومات عنه إلى القيادة الإنجليزية.
يوضح المؤلف كيف انتقل «الشيخ جيل» إلى السويس ومعه حقيبة سوداء، وعشرون ألفا من الجنيهات ليسلمها إلى «بالمر» ليدفعها إلى عربان الصحراء الذى تعاقد معهم، بالإضافة إلى مهمة أخرى وهى ضرورة تدمير وإحراق أعمدة التلغراف في صحراء سيناء كلها، لمنع المراسلات البرقية بين جيش «عرابى» وبين تركيا وسوريا.
ثم التقى الشيخ جيل بالشيخ «بالمر» ورفيقهم الثالث في المؤامرة، الملازم الإنجليزي، وبعد تناول وجبة الغذاء، لمح أحد البدو الحقيبة السوداء تطل منها رزم من الأوراق المالية، وبعد الغروب.. فجأة.. انطلقت ثلاث رصاصات قضت على الرجال الثلاثة، وبالتالى دفنت أحلام بالمر في رمال الصحراء.
مع ذلك لم تنته القصة، كما يقول المؤلف بل كانت حلقات الخيانة تستحكم حول «عرابى»، وظلت جبهات الخيانة تعمل بلا كلل حتى نجحت في حصار الجيش المصرى في التل الكبير وإلحاق الهزيمة به.