الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اقتراحات صديقي وجدال الفلاسفة ونصيحة «كافكا»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news



في البداية دعنا نتفق إذا لم يعجبك في بعض الأحيان ما أكتبه، فأنا أيضا لا يعجبني ما أكتبه في كثير من الأوقات، لكن ربما يكون هناك قارئ غيرنا يعجبه ذلك، أو ربما أكون مضطرا لذلك في بعض الأوقات لأشعر أنني ما زلت على قيد الحياة.

سألني صديقي: ماذا ستفعل في الحياة وأنت تضع قدميك على دركة جديدة من دركات عمرك، تتهاوى سريعا إلى النهاية كمسافر ركب مساءً الطريق ولم يدخر شيئًا بعد؟، اقتراحات عديدة لمشاريع كثيرة وكعادة المفلسين أمثالي يكون الخيال رحبًا، براعة في الأفكار والتخطيط، ربما تلك من مفارقات الحياة المضحكة، التي لو فطِن إليها أصحاب الأعمال لجاءوا بالمفسلين ووضعوهم في لجان التخطيط، فالتمني لفعل لم يحدث يخلق قدرةً على الإبداع.

تركت صديقي وأنا أُفكر فيما قاله، أي مشروع يستطيع مثلي فعله، نعم ساقتني الظروف للعمل في كثير من المهن لكني لم أمتهن شيئا إلا الكتابة، ماذا عساي أن أفعل وكل ما أملكه في الحياة مجموعة من حروف الهجاء، أُشكِّلها كل يوم حسب حالتي المزاجية وحسب معطيات الحياة، فتارة يخرج الحرف فاغرًا فاه يبتسم ولا يكف حتى يطوي السماء بين شفتيه، وتارة أخرى يطبقهما فلا حتى يسمع الكون منه أزيز الحياة، أتعبت الحرف وأتعبني في شراكات كثيرة بيننا لم نخرج منها رابحين إلا في مواطن قليلة، بربح معنوي لا يراه الكثير ممن حولنا أنه ذو قيمة.

كعادتي في مثل تلك الإشكاليات وحينما أركن إلى روحي في مساءات معدودات، أستدعي هؤلاء الذين أغووني بالكتابة، وحقا كلهم يحضرون إلا من أعاقه ظرف لا يحتمل، تضج غرفتي بهم بدءًا من شيخ الكتاب مرورا بأستاذ اللغة العربية، وذلك الفلاح الفصيح الذي إن رأيته يناطح أفلاطون في رأسي لظننته أرسطو بجلباب بلدي وعمامة من الصوف، جَمْعٌ لن تجد له مشهدًا في الحياة ولا صورة فوتوغرافية إلا هنا في رأسي، أحيانا كثيرة أضيق ذرعًا بهم وألقي بواحدٍ تلو الآخر من النافذة وأنا أصرخ مرددًا إحدى عبارات الروائي الفرنسي ألبير كامو: «إن الحياة لا تتغير إطلاقًا.. وأن جميع أنواع الحياة تتساوى على أية حال»، تستوقفني عبارة الصراخ، لا جدوى من الكتابة.. لا جدوى من العراك في الحياة، لا جدوى من شئ النهاية واحدة، نحن نتسابق على ماذا؟ لا أدري!.

يقاطعني فيلسوف الأخلاقية «إريك هوفر» بانفعال: ماذا تريد؟ بضحكة عالية يخطف مني صديقي الشاعر المكبل بالديون الحديث قائلا: كلنا نبحث عن المال ففيه الحياة، أصرخ في وجهه لا.. أنا أحتاج إليه حقا لكني لا أبحث عنه، ولا يؤرقني إن جفاني في بعض الأوقات، لكني أبحث عن السعادة بأشيائي البسيطة، في الحقيقة بالأدق أبحث عن معنى السعادة، أحيانا أشعر بها ولا أستطيع تفسيرها أو البوح بها، وأحيانا أتمناها، كعادة «هوفر» أستاذ الاجتماع الأمريكي يقاطعني بإجابة باردة معتادة: «البحث عن السعادة أحد مصادر عدم السعادة»، أصرخ أنا لا أريد فلسفتكم.. لا أريد استغناء البسطاء، الذي جئ به مرغما لعجز عن تحقيق غيره، ولم يؤت به زهدا بعد تملك، أنا أريد أن تأتيني السعادة وأنا أعدكم أنني سأتصدق بها كاملة وحينها حتما سأكون سعيدا.

أخذتموني بعيدا عن سؤال صديقي، الذي استدعيتكم للإجابة عنه، أريد أفكارًا منكم عن مشروع أفعله غير امتهان الكتابة حتى أتجنب سوء النهايات التي وقع فيها الكثير؟.. عم حسين فيلسوف الرواكي يجيب: «قلبت دماغنا، ربك بيرزق الهاجع والناجع والنايم على صرصور ودنه، انوي خير تلاقيه خير، طالما ربنا كتب رزقك من الكتابة يبقى هيديك مدد ومداد»، وعلى غير عادته في معظم الجلسات يؤيد ابن سينا حديث فيلسوف الرواكي مبتسما: «المستعد للشيء تكفيه أضعف أسبابه».

كانت دقات الساعة تترنح من اليقظة معنا وما أحدثناه من صخب يعلو بندولها، فطلبت منهم الانصراف، حتى أخطف القليل من النوم ليوم يشبه الأمس وإن خدعنا بتبديل القناع.

على عتبة الباب استدار «كافكا» وهو يعلم أنني لا أستريح له لأسباب عديدة برغم قضائنا أوقاتًا طويلةً معًا، مشيرا بسبابته وكأنه يستعيد إحدى رسائله إلى «ميلينا»: يا هذا كفاك أن تكتب، فالكتابة شكل من أشكال الصلاة.
تبسمت.. فهذه النصيحة هي التي أودُّ سماعَها حتى وإن جاءت من «كافكا»، سوف أكتب رغم كل شيء.. سوف أكتب على أي حالٍ إنه كفاحي من أجل المحافظة على الذات.