الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المعرفة وأنظمتها البيئية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى العلاج النفسى يبدأ المعالج برسم خريطة للعالم؛ خريطة يمكنه إذا نجح فى رسمها أن يحدد موقع كل شيء فيتضح نتيجة لذلك موطن الخلل فى النفسية المريضة. وهذه الخريطة هى نفسها التى تعمل المدرسة فى كل مكان على رسمها: خارطة الأفكار الأساسية، التعريفات الضرورية والقيم القاعدية.
بحثا عن سبل صحيحة لهذه المدرسة (وكل المؤسسات أو الجهات المسئولة عن التكوين المجتمعي؛ وربما على رأسها الصحافة والإعلام كمواقع شديدة الضخ فى خزان القيم) لكى لا تفسد مهمتها النبيلة المهمة والقاطعة فى تشكيل الفرد النموذجى الذى يعرف ما يجب، والذى يؤمن بما ينبغى الإيمان به، المواطن الصالح المستعد كل الاستعداد للإذعان للدولة المهيمنة بكل طواعية، مانحا جسمه الحى بطواعية ودعة تامتين مثلما يفعل المريض بلا أدنى ريب.
بحثا عن هذا غالبا ما نستعين بالقدرة العالية على الاستبصار الكامنة فى العلم صاحب القول الفصل فى كل شأن تتنازعه الآراء.
ولكن العلم يعانى أيضا من مرض خطير وضع عليه اليد هايديغير القائل: «إن العلم لا يفكر فى ذاته. ويمكن أن نضيف إلى هذا أنه لا يُعنَى كثيرًا بذاكرته، ولا يلتفت إلى ماضيه».
هل يمكننا أن نثق فى كائن أعمى مكابر وغير معن بتاريخ الحقائق مثل العلم لكى نحصل على هذه الحقائق؟
تنويعات
ماذا قد تعنى ملاحظة يبديها أرسطو فى كتابه «الفيزيقا» الذى يقف كقرآن للفكر العلمى والمادى فى تعارض شهير مع التعالى الأفلاطونى الذى يبدو قرينا مناسبا ومرضيا عليه للفكر الديني، أو للشعر أو للغنوصية ذات التسليم المبدئى للخفايا وهيمنتها على المحسوسات: «أهل زمانى لا يهتمون بالأشياء بل بالأرقام فقط... وهل تغنى الأرقام عن الأشياء شيئا؟».
ارتبط العلم باكرا بالرياضيات كلغة يجتمع عليها الجميع بلا تمييز بين الهواجس والمواجد، الرياضيات تصبح بسرعة لغة مشتركة بين أناس كثيرين تهبهم الشعور بالراحة إزاء محمولها.
تبدو الرياضيات واثقة فى النفس وجديرة بالثقة فى النفس، على عكس «العلم» الذى هو مفهوم مبهم ككل شيء يروق لهايديغير الخوض فيه. ولكن أحد الرياضيين الأفذاذ فتح بابا هاما على جوهر خفى للرياضيات. يقول الرياضى النابغة وليم كنجدون كليفورد W. k. Clifford الذى أصبح إبان حياته القصيرة أستاذ الرياضيات التطبيقية فى جامعة كمبردج العريقة ذات الصدى العالمى فى الرياضيات، وهو أول من تكفل بعرض هندسة ريمان — هندسة السطح المحدب — فى بريطانيا وبحث طوبولوجيا المساحات فيها. وفى كتابه الصادر قبيل رحيله، أوضح كليفورد خطورة الاقتصار على تدريس العلوم الحديثة واعتبارها الثقافة الشاملة، مع الجهل بماضى العلم، ورأى كليفورد «أن مباحث تاريخ العلم من شأنها أن تردم الهوة التى انشقت وتعمقت بين الدراسات العلمية الحديثة وبين الدراسات الإنسانية، كما تعبر عنها الفنون الحرة والآداب».
ويمكن اعتبار دعوة كليفورد هذه تمهيدا جيدا للقضية المهمة التى فجرها فيما بعد لورد سنو C. P. Snow فى محاضرته الشهيرة «ثقافتان» التى ألقاها فى الجامعة التى شهدها كليفورد، بجامعة كمبردج، إذ كان لورد سنو عالمًا طبيعيًّا محترفًا يقضى نهاره مع العلماء، وأديبًا هاويًا يقضى أمسياته مع الأدباء، وأفزعته المسافة الواسعة بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية، مسافة خلقت على الجبهتين المتقابلتين عالمين يبحثان عن المرفأ نفسه بعيدا أحدهما عن الآخر.
لقد بدا واضحًا خطر فصل العلم كمضامين وأجهزة ورموز عن علاقته بالحياة والثقافة بمعناها الشامل، ولعل هذا ما تمخض عما يسود الآن من ضرورة أن يدرس طلبة العلوم مادة إنسانية ويدرس طلبة الإنسانيات مادة علمية، كما كان يحلم كليفورد الذى أدرك مبكرا الطاقة العظيمة الكامنة بالنسبة للعلوم فى تاريخ العلم؛ هذا الأخير الذى يتحول إلى مرآة مناسبة لمعالج المريض الغريب المسمى «العلم»، طاقة يملكها العلم على الإسهام فى رأب الصدع بين الثقافتين الإنسانية والعلمية (ولا بد من وضع اليد على نقطة حدوث التصدع، والتى قد تكون هى زمن سقراط حسب التصور الهاديغيرى القائل بأن الحقيقة قد فارقت الكلمات على أيام سقراط، وأن جدارا لغويا/فكريا قد تشكل بين الإنسان والطبيعة؛ أى بين اللوغوس والفيزيقا، وبين «الدا» و«الزاين» فى المعجم الهاديغيري).
كيف ترى يتحول اللوغوس المشبع بالخير إلى عين تنضح شرا؟
الشعور المهيمن فى الغرب بعد انتشار قرنين كاملين من الإصرار على التواصل المفرط هو شيء من قبيل ضرورة الانعزال لأجل الحد من سطوة الصخب الكامن فى اللوغوس – كما يقول كريشنا مورتي- ؛ ولتحرير الأصوات الكامنة فى الداخل التى هى أقرب إلى أصوات الطبيعة التى يرى هاديغير أن فلاسفة من قبيل بارميدياس وما قبل السقراطيين كانوا أكثر تنصتا إليها منا.
ربما يكون هذا الأمر مفتاحا جيدا لما نسميه فى معجمنا البابلى اليوم «أنْسنة الظاهرة العلمية» أى إدراج المكون الإنسانى الملحق بالفيزيقا/التراب/ السليقة فى المكونات العلمية، أى هذه الظاهرة الإنسانية فى عالم الإنسان (العالم الذى احتضن وجود الإنسان، لا العالم الذى عمل على إيجاده الإنسان)، وتلك هى المسافة الهاديغيرية بين الغابة والمدينة... مسافة قد نصطدم ونحن نقطعها بالآية القرآنية ذات الأصداء البابلية (البرج والبلبلة اللوغوسية واللعنة السماوية)؛ إذ جاء فى الآية ٨٣ من سورة القصص: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». (صدق الله العظيم).
من جهة مقابلة، فإن الكلمة الرئيسية التى دارت حولها فلسفة هاديغير هى الميتافيزيقا؟
يمكننا داخل المقهى الميتافيزيقى الذى كان يدعو إليه جان بول سارتر وهو يحاول إعادة ربط الصلة بين الحياة والمعرفة التى تتسكع فى شوارعها، أن نعيد النظر فى مقولة هيغل الشهيرة «العقلانى واقعى والواقعى عقلانى ولا برزخ بينهما» لكى لا تكون وراء المقولة حرب ميتافيزيقية بالضرورة، بل لكى يكون هنالك سلم دائم بين الحس والعقل، بين الحياة فى تدفقها والعقل فى تجريداته، بين الفيزيقا بكل ما لها من راهنية وحضور، وبين الميتافيزيقا التى كبر ماردها حتى شكل تاريخا غريبا يعيش على هامش كل تاريخ؛ يصلح أن نسميه «تاريخ الميتافيزيقا» كما يقول هايديغير.
كيف يمكن أن نعرف الميتافيزيقا بعيدا عن الجدل الفلسفى الذى هو قمة اللوغوس وحضيض الفيزيقا؟
الميتافيزيقا خيبة ضرورية فى الوجود. يزرع الوجود محطات معينة للفهم، عادات يرتاح إليها الإنسان، سياسات يروى حولها حكايات تعظيمية تستجيب لطبيعته التوثينية، قيم يقرر ظرف تاريخى ما خضوعا لقوى وسلطات تتجاوز كل إمكانيات المراجعة والتقصى والاستقراء أن يصفها بالأخلاق، ويقرها قيما عظمى وخالدة للشيء الذى لا هو خالد ولا هو عظيم الذى هو رحلة الإنسان على أديم الوعى والمسمى: الحياة.
هذه الرؤية الجزئية – إلى جانب البلبلة المتعود عليها فى التواصل البشري- هى التى تجعل طريق المعرفة الإنسانية مدججا بالشك، الشك الداعى إلى التوقف عن اليقين؛ تلك العادة اللذيذة التى يجعلها هوسرل رد فعل منطقيا إزاء رد الفعل الطبيعى الذى هو إغراق موضوعات وعينا وتجاربنا الحسية وسط مياه اليقين.
ولكنه الشك نفسه الذى يجعله هيغل فى «فينومينولوجيا الروح» ضرورة قد تصل حد بلوغ لحظة القنوط التام التى هى لحظة ضرورية فى مسيرة بلوغ الحق.
يظل السؤال مطروحا: ما ضمانات الإنسان إزاء عاداته وتاريخه؟ وكيف يصل حد التأكد التام من وعيه/علمه/ أدواته/ذاته؟
وهنالك سؤال يختفى خلف هذه الأسئلة العنقودية: ما ضمان الحضور الكلى للإنسان فى تجاربه لكى يضمن النتائج؟
خلاصات
كان أرسطو قد تنبه باكرا إلى هذه الفكرة فقال: «وحده الله يملك حظوة الحضور المستمر والوعى غير المنقطع فى ذاته وبذاته». يعانى الإنسان فى رحلة شفائه فى مستشفى الوجود من النزعة الانغرازية القوية. نزعة توطين نفسه وتوطين أفكاره فى المكان بحيث لا يمكن تصور «الزاين» إلا فى «الدا».
وفى ذلك يلاحظ الإنثروبولوجى والمؤرخ أمريكو كاسترو؛ بعدما قضى حياة برمتها فى دراسة أثر الماضى على الحاضر، أهمية حوض الأفكار بالنسبة للفكر البشري، وهى أهمية يقر بأنها تفوق تماما أهمية التاريخ التى يبدو أن تاريخ الفلسفة وحتى القرن التاسع عشر (وتحديدا: حتى كارل ماركس) قد أخطأ بالمبالغة فى تضخيم أثرها: «إن الذين يتكلمون لغة جماعة إنسانية، ويعتنقون دينها، ويطبقون نظمها السياسية والإدارية، يصبحون جزءًا منها مهما كانت الظروف التى عاش فيها أسلافهم».