الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محنة أمراء المنابر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يُعد مصطلح أمراء المنابر من أكثر الألقاب التى لقب بها المفوهون من أئمة الدعاة ورؤساء الأحزاب وقادة الفكر وزعماء الإصلاح وأصحاب الرأى من المثقفين، وذلك في الربع الأول من القرن العشرين.
وقد تناول «المنفلوطي» هذا المصطلح من الناحية التطبيقية العملية، فذهب إلى أن الفلاسفة والأنبياء جاءوا -بطبيعة الحال- برؤى نقدية إصلاحية ترمى إلى تقويم عوائد المجتمع وأحواله وإصلاح ما فسد من نظمه وثوابته العقّدية.
ومن ثم قوبلت خطاباتهم ومشروعاتهم برفضٍ وعنت وعنف وصل إلى درجة الاغتيال في بعض المجتمعات. الأمر الذى يحتاج دومًا -من قبل المصلحين- إلى سلطة تؤيد رسالتهم أو دعوتهم، إما أن تكون من أعلى (الحاكم أو أصحاب النفوذ والقوي) أو من أسفل (الجمهور، العقل الجمعي، الرأى العام).
الأمر الذى يستلزم حصافة في العرض وواقعية في المعالجة، بالإضافة إلى مصلحة مباشرة ترغب المؤيدين في حماية الدعوة، بغض النظر عن طبيعة تلك المصلحة مادية كانت أو روحية.
فالمهم أن تكون عاقلة ومشروعة، وإن اتخذت الطابع الثورى سبيلًا لها، وفى ذلك يقول: «كان الدعاة في الأمم أعداءها وخصومها؛ لأنهم يحاولون أن يرزأها في ذخائر نفوسها ويفجعوها في أعلاق قلوبها. الدعاة الصادقون لا يبالون أن يسميهم الناس خونة أو جهلة أو ملحدين أو ضالين أو كافرين؛ لأن ذلك ما لا بد أن يكون. الدعاة الصادقون يعلمون أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) عاش بين أعدائه -متهمًا بالكذب والسحر-.. وأن الغزالى عاش منعوتًا بالكفر والإلحاد... وأن ابن رشد عاش ذليلًا مهانًا حتى كان الناس يبصقون عليه إذا رأوه ولم يسلم من ذلك فيلسوفا الشرق... الأفغاني، محمد عبده». 
«وسيقول كثير من الناس وما يغنى الداعى دعاؤه في أمة لا تحسن به ظنًا، ولا تسمع له قولًا، إنه يضر نفسه من حيث لا ينفع أمته، فيكون أجهل الناس وأحمق الناس. هذا ما يوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين، وهذا هو الداء الذى أَلمّ بنفوس كثير من العلماء فأسكت ألسنتهم عن قول الحق، وحبس نفوسهم على الانطلاق في سبيل الهداية والإشارة، فأصبحوا لا عمل لهم إلا أن يكرروا للناس ما يعلمون، ويعيدوا عليهم ما يحفظون. فجمدت الأذهان وسكنت المدارك وأصبحت العقول في سجن مظلم لا تطلع عليه شمسًا ولا ينفذ إليه هواء». 
ويتضح من ذلك ثلاثة أمور: أولها وعى «المنفلوطي» برسالة أصحاب الرأى والعقبات التى سوف يتعرضون لها من جراء دعوتهم. وثانيها إدراكه بأنه يسير في ركاب المجددين. وثالثها خطورة تقاعسه أو يأسه من جنى ثمار عمله في مجتمع جاحد.
ومن ثم لم يكن أمامه خيار لإكمال رسالة أستاذه الإمام «محمد عبده». ولا يمل «المنفلوطي» من تحذير الرأى العام من خطر الأنبياء الكذبة، وأدعياء العلم والعقل، والمداهنين للسلطة والمتملقين للجمهور تحت عباءة الدين تارة والحرية والتقدم تارة أخري.
فجميعهم سوف يلاقى الرضا والاستحسان من قبل الجمهور المتعصب للرأى السائد. وسرعان ما يفيق على مرارة ما تجرعه وكاد أن يُمِيتُه من جراء تعاطيه ومناصرته لدعاويهم. وعليه فهو يناشد المثقفين قبل العوام ضرورة الأناة والتمهل قبل الرفض أو القبول لما يسمعون من «أمراء المنابر»، ويدعوهم في الوقت نفسه إلى العزوف عن كل مواطن الشقاق وشق الصف والتفرق والتحزب، وذلك لأن الطامعين لا يخشون إلا من الإيقاظ العقلاء المتحدين والمؤتلفين، فليس هناك أقوى من سلاح الفرقة والشقاق في الأمة الواحدة ليطعن به الأعداء هذا الوطن، ويقول: «عرفت أن الأمة الشرقية في موقف من أحرج مواقفها، ومسلك من أضل مسالكها، وأنها بين ما ضغى الأسد وفوق ورق الظبى وأن حوادث الدهر وعاديات الأيام قد ملكت عليها سبيلها والتفت حولها التفاف الحية بالعنق والقيد بالرجل....، عرفت أن الأمة الشرقية أصبحت لا تدرى ما تريد وما يراد بها، ولا تجد من يرد إليها رشدها ولا من يمد يده إليها ليأخذ بيدها في هذا الظلام الحالك والليل المدلهم...، تعددت قادتها وتنوعت مذاهبهم واختلفت طرقهم واستحكمت حلقات اليأس بينهم فلم يتفقوا في شأن من شئون هذه الأمة....، وقد عرف كل أولئك اللاعبين بها والعابثين بميولها وأهوائها منها هذا الخلق وتلك الطبيعة، وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد فنفذوا من تلك الآذان اللينة إلى تلك القلوب الطيبة فما بلوغها حتى أخذوا يلعبون بها لعب الصبى بكرته ويتلقفونها واحدًا بعد واحد...، كل يزعم أنه صديقها، وكل يزعم أنه يدلها على عدوها والله يعلم أنهم أعداؤها قبل الأعداء».
وانتهى إلى أن طبيعة هذه الأمة ليست الفرقة أو التسارع أو التناحر، بل الاتحاد والألفة والتضامن والتآخى والتعاون، وذلك بفضل القيم الأخلاقية والروحية التى هى صلب مشخصاتها (فالدين أو الجنس أو الأعراق لم تُنسِ المصرى أنه مواطن مصري، فالوطنية عند «المنفلوطي» لا تتحقق إلا بحب الوطن والعمل من أجله والدفاع عن وحدته والذود عنه ضد أعدائه).
وحريًا بى أن أتسأل: هل هناك أصدق من تحليلات «المنفلوطي» لواقعنا المعيش؟ وهل هناك أصوب من توجيهاته؟
فإننى مخلصًا أدعو شبيبتنا لتأمل ما خَط «المنفلوطي» بقلمه العاشق لتراب هذا البلد.
وللحديث بقية..