الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تحولات المتاهة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بطل الرواية فى نص خورخى بورخيس «كتابة الله» يرى أنه «عجلة عالية جدًا لم تكن أمام عيني، ورائي، ولا بجانبي، ولكن فى كل مكان دفعة واحدة. هذه العجلة مصنوعة من الماء وأيضًا من النار»... هذا التماهى القديم بين الإنسان والعالم يذكر الإنسان المولع بالطيران على طريقة إيكاروس مرة وخاصة على طريقة عباس بن فرناس، ثم على طريقة سلالات كثيرة من الطيارين الذين خرجوا من أقطار السماوات والأرض لكى يكتشفوا الحقيقة الوحيدة التى عبر عنها رواد الفضاء الذين دارت حولهم دراسات «متلازمة رائد الفضاء»: لن تستطيع رؤية الأشياء من الزاوية نفسها بعد الخروج من أقطار السماء والنظر صوب كوكب العجائب الذى هو الأرض والذى سيتحول بغتة إلى نقطة صغيرة جدا تسبح فى فضاء لا مبال بها، يحيط بها غشاء هش يكاد لا يرى».
هذا هو التغير العميق فى وجهة النظر الذى لم يكن ليحدسه أحد من الظواهريين وهم يقولون بتغير تجربة الإدراك حسب تغير الزمان والمكان.
فلنعد إلى ديدالوس؛ مهندس المتاهة الميثولوجية، وإلى إيكاروس؛ ابنه الذكى الذى ابتكر حيلة الخروج منها. ما هو يا ترى الوعى الذى تخلفه المتاهة فى التجربة البشرية؟

تنويعات
فى قصيدة فيكتور هيغو «المجوس» تبزغ الصورة التالية:
«الدماغ الأسود من بيرانيسي
هو فرن خطي
حيث يختلط الفلك والسماء،
الدرج والبرج والعمود؛
حيث ينمو، يرتفع ويتورم فى فقاعات.
شيء مثل بابل غير القابلة للإنهاء».
بابل التى لا نهاية لها ضياع فى اللغة يتسرب إلى الوجود. ككل شيء ذى بال فى العالم يدخل الوجود من باب اللغة (هايديغير يراها شرفة، والشرفة أخت الباب المدللة).
لماذا هذا الولع الجمالى والفلسفى بالمتاهة؟
هل يوحى به مثلا شكل المخ داخل الدماغ؟ هل رأى الإنسان قديما شكل الدماغ المليء بالتعرجات التى تعد بنظام ما، ثم تخلف الوعد كى تبلبل السبل؟
أم أن الإنسان يكون قد قرأ الكتب المقدسة التى تجعل العالم غابة مظلمة يجب الخروج منها؟ متاهة تحتاج إلى من يهدى السائر الذى كثيرا ما يكتشف فى منعطفات الحياة بأنه يسير على غير هدى؟
يشير مصطلح «المتاهة» إلى تنظيم معقد؛ إما ملموس (هندسة معمارية أو حضرية أو حدائق أو مناظر طبيعية...) أو يكون مجردا (هياكل، طرق تفكير...)، حيث يمكن للشخص أن يضيع. من الصعب متابعة رحلة المتاهة وفهمها بالكامل... والمتاهة تقترب بهذا الشكل من كونها تجربة للعيش أكثر من كونها مسألة يطلب حلها. وربما يكون ما كان يفكر فيه كيركغارد هو المتاهة وهو يقول: ليست الحياة إشكالية يجب حلها، بل هى واقع يطالبنا بعيشه.
فى المتاهة وجهان دوما. وجه ظاهر والآخر مضمر. المتاهة مدينة جيدة التخطيط محكمة البناء تحتاج نجما من نجوم الهندسة مثل العبقرى «ديدالوس» الذى سيتم خلق تحفته لكى يموت عند ختامها. التحدى فى الأسطورة هى أن يضيع الصانع العبقرى وسط صنيعته.
ما المغزى من البناء المنطقى الممنهج لتحفة فنية هدفها التيه والضياع؟
إنها عبقرية الإنسان. قدرة الإنسان على خلق أنظمة للتناقض. على التراوح المستمر بين المضمر والظاهر (فلسفيا) بين الجسد والروح ( دينيا) بين الحقيقة والمجاز (لغويا) بين التردى والتسامى (أخلاقيا) بين المعنى ومعنى المعنى (تأويليا)... لقد وصل مونتين إلى درجة معقدة من قلق الازدواج هذا، وما يخلفه فى الفلاسفة والعلماء من شبق التفسير، ها هو ذا يقول: «أنا لا أستطيع إقناع نفسى بسهولة أن أبيقور، أفلاطون، وفيثاغورس قد أعطونا فعلا ذواتهم، ومنحونا أفكارهم وأعدادهم الواضحة. لقد كانوا حكماء جدًا فى وضع مبادئهم الإيمانية على شيء غير مؤكد ومشكوك فيه».
وتحضرنى هنا مقولة بديعة للشاعر بول فاليري: «خطران يتهددان العالم باستمرار: النظام والفوضى/ ordre et désordre... مقولة تكاد تكون ترجمة أمينة للهاجس الذى قاد لايبنيتز؛ أحد أكبر العقول فى التاريخ، إلى التعبير فى وصيته عن رغبته فى أن ترسم متاهة رياضية الروح على قبره. الرياضيات لسان العقل الصامت، لغة ميتافريزيقية كما يصفها بعضهم. أو لغة عالقة فى عالم التجريد احتاجت إلى الهندسة أولا ثم الفلك والجغرافيا وغيرها من العلوم لكى تتنزل إلى عالم المحسوسات والملوسات.
بهذا التقديم للأشياء ستكون الهندسة متاهة العقل الجبرى القاعدي.
هل أن المتاهة مسألة عقلية فحسب؟
فى نهاية الأمر سيخرج من متاهة مينيوس الميثولوجية ثلاثة أشخاص أحدهم المهندس الملعون الذى سيقع فى فخ عقله العبقري، وسيخرجه من هنالك وفاء الابن؛ إيكاروس، صاحب فكرة الخروح عن طريق الطيران لا البحث الأفقي. وكذلك البطل ثيسيوس الذى كانت مهمته قتل «المينوطور»؛ الوحش اللعين الحامل لبذور العار، والذى صنع الملك مينيوس المتاهة لأجل حبسه داخلها... خروج ثيسيويس سيكون الأجمل ولو أنه ليس شعريا كطيران أيكاروس ووالده ديدالوس اللذين صنعا أجنحة من الشمع، كانت الوصية التى نسيها إيكاروس هى عدم الاقتراب كثيرا من الشمس لكى لا تذوب الأجنحة فيسقط الطائران المتطفلان على فعل الطيران فيموتان...
ثيسيوس سيستعمل أقدم وأقوى سلاح على وجه الأرض: الحيلة الأنثوية. سوف تنصحه عاشقته الجميلة «أريان» بأن يفك خلفه كبة خيط يسمح له بالتعرف على الطريق المسلوك لأجل الخروج بعد قتل المينوطور.
فى كل هذه الأحداث نتعرف بيسر كبير على الإحالات الواضحة على الحياة، على التجربة البشرية التى تنضح من هذا الإطار العجائبي.
سوف يولع العالم القديم بالمتاهات كأليغوريا شفافة تحيل على التجربة البشرية. المتاهات هى دروبنا فى الحياة. وعندما نسمع عن متاهة فنحن نفكر فى متاهتنا نحن. وفى المتاهة التى هى ليست متاهة لأنها نحن؛ النحن التى نعرفها ونعرف أننا لن نعرفها. المتاهة لغز فج يعلى فجاجته من خلال المسارات الملتوية، والمنعطفات، والأزقة العمياء التى لا تفضى على شيء.
كما هى الحال فى الحياة فالمتاهة تحتاج دوما إلى تظافر الحواس وإلى عمل الدماغ. تحتاج إلى عمل الحدس، والإبداع، والخيال الواسع. ديدالوس وابنه وحتى أريان كائنات واسعة الخيال، وكلهم سينتهون نهاية مأساوية (أريان العاشقة المولهة بثيسيوس، وبعد أن تنقذه من المتاهة بحيلتها تلك سوف ينساها العاشق اللامبالى الذى وعدها بالزواج وبث فى أحشائها جنينا ويتركها على جزيرة نائية تعانى مرارة الهجر).
يستوقفنا أمبيرتو إيكو فى «اسم الوردة» بتصوره الباروكى للمكتبة كفضاء يشبه المتاهة التى تنتهى فى النهاية إلى أن تشكل عالما مفاتيحه فى ترتيب الكتب... عالم أعرف من فيه بما فيه رجل ضرير هو شخصية «خورخى دى بورغوس» المكتبى الأعمى الذى يذكر بكل ما يحمله من صفات وباسمه أصلا بالكاتب الأرجنتينى «خورخى بورخيس»...مدير مكتبة بوينوس آيريس الأعمى.
هل يحتاج الإنسان إلى أن يتخلص من عادات البصر لكى يشحذ البصيرة الكافية للخروج من المتاهة؟
خلاصات
كثيرا ما قدم خورخى بورخيس تمثلات متاهية للعالم وللكتب. الكتب عنده هى العالم لأن العالم ينتفى مخلفا خلفه الكتب. والكتب فى المكتبة كما فى الوجدان البشرى متاهات لا يحدها حد... المتاهة بهذا الشكل تصبح دفترا يحوى الآثار الإنسانية. هى صوت البشر فى غيابهم. الرحلة التى نقوم بها داخل كتاب فى أبسط مستوياتها هى استعارة لرحلة إلى العالم من أعمق نقطة فى نفوسنا والعودة إلى العالم مع فهم أوسع لمن نكون.
المتاهة أكبر من الإنسان، وأثر الإنسان نفسه أكبر من الإنسان.
ربما سيكون هذا هو المعنى المضمن فى مقوله ألبير كامو: حتى حينما نتجرد من معنى الحياة سوف تبقى لدينا الحياة... وفى المقولة صياغة وجودية (اى تراجيدية بالضرورة) للمعنى الشهير فى رائعة كالديرون دى لاباركا «الحياة حلم»؛ إذ يقول: ما الحياة؟ هى هلوسة. ما الحياة؟ هى أخيلة. أوهام. وأعظم الفضائل فيها بلا جدوى ولا معنى. نعم الحياة أحلام. وما الأحلام يا ترى؟ هى مجرد أحلام.
عودة المتاهة بنا إلى نقاط مررنا بها هى الصدى العميق لهذا الكلام الذى يقوله كالديرون.