السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: 150 شخصية روائية مصرية.. ناصر عراق.. جرجس من رواية نساء القاهرة دبي "6"

مصطفى بيومي
مصطفى بيومي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.

عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».
«البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة فى عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

ناصر عراق.. «جرجس» من رواية «نساء القاهرة. دبى»

الأستاذ جرجس، فى رواية ناصر عراق، شخصية متفردة جديرة بالتأمل والتحليل، فهو بمثابة العلامة على زمن لم يعد قائما، واستعادة الرجل ومنظومة القيم التى ينتمى إليها هى الحلم والغاية عند من يضيقون بالواقع ذى التوجه المختلف الموجع.
مدرس اللغة العربية المتقاعد، النحيف ذو الشعر الأبيض الناعم، الأب المثالى لابنته الوحيدة المدرسة إنصاف، الجد الحنون الذى يرعى أحفاده الثلاثة بعد استشهاد أبيهم العقيد صبحى ميخائيل فى حرب العبور، الصديق المخلص المحترم لثلة من المسلمين والمسيحيين المتناغمين فى مودة صافية لا تشوبها ذرة من التعصب الدينى المقيت. كان أمثاله كثيرين فى شبرا وغيرها من أحياء القاهرة والأقاليم، قبل طوفان التنطع والتعنت الذى يغزو مصر فى سبعينيات القرن العشرين، ويتوحش فى العقود التالية فإذا به كالوباء المهلك الذى تصعب مقاومته ولا تستحيل.
بعد وفاة زوجه، التى يحبها ويخلص لذكراها طيلة العمر، ينتقل للإقامة مع ابنته وأحفاده، ومع استشهاد زوجها، ابن أخته، تئول إليه مسئولية الرعاية كأنه الأب والجد معا. تقاعده المبكر عن العمل فى التدريس مرود إلى جلطة تصيب القلب، لكن حياته ثرية لا موضع فيها للفراغ والخواء: «يقضى وقته بين القراءة ومراجعة كتب اللغة والشعر والنحو والبلاغة فى الصباح، وإعطاء دروس اللغة العربية مجانا لطلاب المرحلة الثانوية من الجنسين والديانتين فى كنيسة مسرة عند المغرب، ثم التسلى بلعب الطاولة عندما يأتى المساء فى مقهى نور الصباح الكائن عند تقاطع شارع اللواء فطين مع شارع شبرا».
عبر شخصيته الثرية متعددة الأبعاد، يمكن استنباط شهادة مهمة غنية بالدلالات عن الحياة المصرية، منذ شبابه فى ثلاثينيات القرن العشرين حتى رحيله فى مطلع الثمانينيات. المحاور الرئيسة فى سيرته تتمثل فى ثلاث نقاط: اعتزازه بأستاذية الدكتور طه حسين، تفاعله مع التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى عصر السادات، تعبيره عن مناخ الوحدة الوطنية من التوهج والتماسك إلى السقوط فى شرك الأزمة.

لا شيء يفخر به الأستاذ جرجس ويباهي، يفوق تتلمذه المباشر على يدى عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، فهو واحد من طلبة الجامعة «الذين ألقى عليهم الدكتور طه محاضراته فى كلية الآداب بجامعة القاهرة فى ثلاثينيات القرن العشرين».
صورة الدكتور طه، واقفا بمهابة بين تلاميذه، معلقة على حائط الشقة مجاورة لصورة السيدة مريم العذراء، والولع بالعطاء الفكرى والإبداعى للرائد الكبير يصاحب الأستاذ جرجس بلا انقطاع، وهو ما يتجلى فى حوار قصير مع ابنته:
«ألم تضجر بعد من مطالعة «دعاء الكروان»؟
سألت أنصاف أباها مداعبة وهى تعلم الإجابة سلفا، حيث قال الرجل، وهو يتأمل غلاف الرواية:
من منا لا يحب الدكتور وكروانه؟
ثم أردف مفاخرا بعبارته التى تعرفها ابنته كما تعرف أبناءها من فرط ما رددها أمامها:
- «لقد أثنى عليّ الأستاذ العميد حين تلوت أمامه القراءة النقدية التى كتبتها عن هذه الرواية الجميلة».
«الضجر من إعادة قراءة رواية طه حسين ليس واردا كما تعرف إنصاف التى تداعب أباها، والتعلق بأستاذه وأستاذ الأجيال لا يقتصر على تكرار القراءة والصورة التى تزين الجدران، ذلك أنه يختار اسم سوزان لحفيدته الكبرى من وحى حبه الذى لا يعرف الذبول»: «لأنه اسم الزوجة الرائعة للعظيم طه حسين».
لم يكن الدكتور طه حسين أستاذا جامعيا مرموقا ومفكرا تقدميا عصريا مستنيرا من طراز فريد فحسب، بل إنه أيضا قيمة شامخة فى مواقفه التى لا تناقض أفكاره ورؤاه، ومن ذكريات جرجس التى لا تُنسى واقعة تنم عن منظومة القيم السائدة فى الثلاثينيات. جرجس، الشاب المسيحى الوحيد الذى يدرس فى قسم اللغة العربية، يصدّر ورقة الإجابة فى أحد الامتحانات بعبارة «بسم الله الرحمن الرحيم»، وعندئذ يستدعيه أستاذه إلى مكتبه مستنكرا: «من قال لك أن تكتب هذه العبارة؟ أجبت أن صديقا لى نصحنى بذلك حتى أضمن النجاح».
يضحك الدكتور طه من مقولته الغرائبية هذه، ويصحح له المفاهيم المغلوطة منتصرا لجوهر البحث العلمى العابر للأديان، وينهى الحوار معه قائلا: «الإسلام دين تسامح ومحبة مثل دينكم تماما، فلا تكتب شيئا غير مطلوب منك تقربا وزلفى. ولا تنس أن زوجتى مسيحية».
لا تقتصر دروس العميد على الجانب النظرى وحده، ففى سلوكه العملى دروس لا تقل أهمية وعمقا، والجيل الذى ينشأ متشبعا بمثل هذه القيم النبيلة لا بد أن يكون مستنيرا واعيا مبرأ من شوائب الطائفية والتعصب وضيق الأفق. ما حياة جرجس فى حى شبرا، معقل التعايش الإيجابى المضيء بين المسلمين والمسيحيين، قبل استشراء سرطان التدين الشكلي، إلا الدليل العملى على طبيعة الجيل وإيقاع حياته السوية.

الأصدقاء المقربون من الأستاذ جرجس خليط دال من المسلمين والمسيحيين أصحاب المهن المختلفة، لكنهم يتوحدون تحت راية الحب العابرة للانتماء الدينى والطبقي: «عم حسنين البقال ومرسى الشوبكى المدير العام السابق بوزارة الأوقاف وسمير بطرس مدرس الرياضيات ووكيل مدرسة التوفيقية الثانوية للبنين سابقا. هم أعز الأصدقاء وأكثرهم حرصا على موعد اللقاء اليومي».
صداقة حميمة عميقة الجذور تجمعهم وتحيلهم إلى إخوة أشقاء لا شأن للهوية الدينية بما يناقشونه وينشغلون به من هموم وقضايا الحياة اليومية، ذلك أن الدين مسألة شخصية لا ينبغى إقحامها فى دائرة الجدل غير المجدي، ولا يصح أن تعكر صفو العلاقات الإنسانية المتكئة على مرتكزات شتى غير دينية.
التعايش المتحضر بين أصحاب الديانات المختلفة لا يعنى نبذ الدين والتنكر له أو إنكاره، وفى علاقة جرجس مع العقيدة المسيحية ما يبرهن على خصوصية وتفرد الجيل الذى يتشبع بالقيم الليبرالية، ويعلى فى إيمانه الدينى من شأن العقل، وعندئذ يتجاور الشك والإيمان: «فالرجل مؤمن بالفطرة مجبول على التسليم بمشيئة الله، لكنه يتلذذ بالإبحار فى نهر الشك الديني، فيطرح على نفسه أسئلة ساخنة وحرجة حول طبيعة المسيح وأمه، وحول الحكمة من تعدد الأديان، وحول دوافع الشر وقدرات الخير، وحول قضايا البعث والقيامة».
الشكوك التى تحاصره منطقية مبررة، تنبع من ثقافته وانتصاره للعقل، وفى هذا السياق يختلف إيمانه بالضرورة عن العاديين من المؤمنين، لكنه يشاركهم الإيمان على طريقته التى تتوافق مع خصوصيته.
من ناحية أخرى، يبدو مثيرا للانتباه والاهتمام ما تقوله أنصاف عن أبيها المفتون بصوت وأداء العلمين البارزين فى مدرسة التلاوة القرآنية المصرية، محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد: «لذا ينصت إليهما كثيرا».
الافتتان بالصوتين الجميلين فنى خالص، ويمثل امتدادا لتعلق جرجس اللافت بالإبداع الغنائى لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وليلى مراد. أسلوبه فى الاستماع إليهم والتفاعل معهم ينم عن ذائقة فنية متميزة، وهل يملك المثقف المستنير إلا أن يكون عاشقا للفن؟.
لأن الأستاذ جرجس ليبرالى أصيل يؤمن بالتعددية ومشروعية الاختلاف، فإنه يرفض القضاء على أعدائه الفكريين، مثل الإخوان المسلمين، بالقهر والعنف: «هل يوجد فكر يمكن القضاء عليه بالعنف؟ الفكر لا يُواجه إلا بالفكر».
فى إطار رؤيته هذه يمكن أن يتعايش الجميع بلا منغصات، مهما تشتد الخلافات بينهم، فما الذى يفعله السادات بالمجتمع المصرى ليعود به قرونا إلى الوراء؟.

على الرغم من ليبرالية جرجس، التى تتعارض بالضرورة مع بعض ممارسات الحقبة الناصرية، فإنه يقدر الرئيس عبدالناصر وانحيازه إلى الفقراء والبسطاء من أبناء الوطن. مع رئاسة السادات وتصاعد معاناة قطاع شعبى عريض بفعل سياسته الاقتصادية وما يترتب عليها من غلاء، يميل الرجل الحكيم المتزن إلى التريث قبل إصدار أحكام الإدانة، لكن نزعته هذه تتبخر مع مبادرة السلام التى يرفضها ولا يرى فيها جدوى أو فائدة.
الأستاذ جرجس ليس انفعاليا عاطفيا مندفعا، وموقفه من التوجه السلامى للسادات قوامه رؤية متماسكة ذات مصداقية جديرة بالاهتمام: «هل هو ساذج لهذه الدرجة ليصدق أن بنى إسرائيل سيجنحون للسلم إن جنح له؟».
رفض السلام من حيث المبدأ ليس واردا عند جرجس وغيره من المعارضين للمبادرة والمعاهدة، والتحفظ الأساس ينصب على منهج السادات والدوافع التى تحركه وتملى عليه خطواته المتسارعة غير المحسوبة، والأهم فى هذه الدوافع يتمثل فى عدائه الجذرى العميق لعبدالناصر ومجمل توجهاته الاجتماعية والاقتصادية: «هل يسعى السادات إلى محو تجربة عبدالناصر السياسية والاجتماعية، وإلقاء مصر فى مستنقع المجهول؟».
يعارض جرجس سياسات السادات جميعا وليس المبادرة وتوابعها وحدها، ويقينه الراسخ أنه يحكم منفردا بلا دور حقيقى مؤثر للحكومة ومؤسسات الدولة التى تنفذ ما يُملى عليها: «الرئيس هو المسئول الأول؛ لأنه حاكم البلاد، وما الحكومة سوى أداة تنفيذ».

يهيمن الفساد فى ظل حكم السادات ويصعد الفاسدون إلى القمة، وليس أدل على ذلك من طبيعة ومواصفات مرشحى الحزب الوطنى فى الانتخابات البرلمانية. يعرف جرجس جيدا تاريخ موريس ألفونسو، أمين المعمل المتحرش بابنته أنصاف قبل أن يتحول فجأة إلى «رجل أعمال»، أما الحاج حسن أبو بصلة فمن كبار تجارالمخدرات. هذان من يمثلان الشعب ويدافعان عن مصالحه؟.
المجلس النيابى كله هش باهت، ووفق تحليل جرجس: «لقد قلب السادات وضع البلد بسياساته المخبولة، وها هو ذا يحل مجلس الشعب ليزيح معارضيه الذين تجرأوا على سياساته وانتقدوه كثيرا بعد زيارته لإسرائيل، ليأتى بالمنافقين والانتهازيين عن طريق تزوير هذه الانتخابات».
جرجس ليس سياسيا محترفا تتحدد أفكاره وفق أيديولوجية مغلقة وانتماء حزبى أناني، والعداء الذى يكنه للسادات مردود إلى اجتهاد وطنى موضوعى يرفض التفريط فى الثوابت، ويعارض الانحياز إلى الأقلية الفاسدة. إنه بعيد عن التعصب الديني، وقبول الآخر المختلف عنده حقيقة لاجدال فيها، ومن هنا يمكن التوقف بإمعان أمام تفسيره لظاهرة الجماعات الإسلامية التى تسود وتهيمن وتتوحش فى عصر السادات، وبتشجيع ودعم الرئيس ورجاله المقربين: «لقد أطلق السادات هذه الجماعات المتشددة لتواجه المعارضة اليسارية والناصرية التى تفضح خضوعه للأمريكان، وانصياعه أمامهم لصالح إسرائيل».
السادات هو من يقود مصر إلى هاوية التوتر الطائفى المصنوع، وفى شخصية سيد ابن البقال حسنين ما يكشف عن المدى الذى يصل إليه التطرف المدعوم من السلطة، قبل أن ينقلب هؤلاء المتطرفون على صانعيهم.
رد الفعل المضاد،عند قطاع من الشباب المسيحي، لا يقل هولا وخطورة، ويتجسد ذلك بوضوح فى الزيارة التى يقوم بها ثلاثة من هؤلاء لمنزل جرجس فى ذروة الفتنة السابقة لاغتيال السادات، يطالبونه بالتبرع المادى لشراء السلاح، ويحذرونه من المبيت فى شقته لأن المسلمين يخططون لقتل المسيحيين واقتحام بيوتهم. رفضه حاسم عنيف، وثقته كاملة فى متانة النسيج الوطني، لكن معطيات الواقع المحتقن تغاير ما يذهب إليه فى رسائل الطمأنينة التى يبثها، والتعصب الأعمى فى المعسكرين ينتشر كالنار فى الهشيم.
على الرغم من هذا كله، يتمسك جرجس بالمبادئ التى ينشأ عليها ويدين اغتيال السادات لأنه لا يمثل علاجا للأزمة بقدر ما يزيدها اشتعالا: «قتل الرئيس لا يحل المشكلات، بل يعقدها أكثر، وها هو الرئيس الجديد حسنى مبارك يعلن حالة الطوارئ ولا ندرى متى سنتخلص منها».
أفكار واعية مضيئة، لكنها لم تعد تمثل التيار الأكثر قوة فى مجتمع يقوده التطرف وتسوده أفكار الإرهاب ويتهيأ لمزيد من التدهور والانهيار.

تنتهى حياة جرجس بميتة هادئة تليق ببساطته ووداعته، فهو يموت ضاحكا يمارس هوايته فى لعب النرد: «سقطت من يده (القواشيط) والزهر والسيجارة، ثم تجشأ فجأة وشهق شهقة أفزعت أصدقاءه، ثم جحظت عيناه فى ثوان معدودات، وتسربت مياه الحياة من وجهه إلى الأبد، فتغير لونه وتقوض بنيانه وهوى رأسه فى صندوق الطاولة.. ومات».
نهاية تخلو من عناء المرض وعذابات الاحتضار الطويل وتشويه الصورة المعهودة النضرة، أما الجنازة المهيبة الحاشدة فإنها تنهض دليلا عمليا ساطعا على مكانته الرفيعة التى تدفع الآلاف من المسلمين والمسيحيين، الشيوخ منهم والشباب، إلى وداعه محاطا بالإجلال والتقدير: «فالحشود الغفيرة التى بكت وفاة رجل طيب طاهر لم ترها شبرا منذ رحيل جمال عبدالناصر».
يبكى صديق العمر حسنين البقال ويلطم خديه تعبيرا عن اللوعة والحزن الذى يسكنه بعد وفاة صديقه، وتنوح الجارة أم حسن كما لم تنح منذ رحيل زوجها، ويطلق رفاق القهوة اسم الفقيد العزيز على الركن الذى كانوا يجتمعون فيه.
تبقى ذكرى جرجس بعد غيابه كأنه لم يمت، ولا ينقطع الحديث عنه والترحم عليه واستعادة كلماته ومواقفه، ولا أحد يملأ الفراغ الذى يتركه. نسيان أمثاله يبدو مستحيلا، ذلك أنه شاهد على عصر يتطلع المخلصون لتقدم الوطن إلى استعادته وإزالة العكارات والشوائب.