الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. نجمة إبراهيم.. الملكة المتوجة فوق عرش الشر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تاريخ حافل بالإبداع، ونجاح استثنائى بلا شبيه في تجسيد أدوار الشر بتجلياته المتباينة، بصمتها لا تُنسى في تاريخ السينما المصرية، والأدلة على تفردها تفوق الحصر. تعذب الأطفال بلا رحمة، وتقسو مثل شيطان على نزيلات الملجأ، وتحترف الإقراض بالربا كأنها المهنة التى تهب لها عمرها، ثم تراها داية جشعة أو امرأة سادية مولعة بالأذى، وهى قبل ذلك وبعده «ريا» المخيفة المرعبة قاتلة النساء وسارقة حليهن.
نجمة إبراهيم نسيج منفرد وموهبة فذة، وأدوارها المنفرة تصنع مجدها الذى لا يتبخر أثره أو يتلاشى.



امرأة شرسة بلا قلب
فضة في «اليتيمتين»، ١٩٤٨، امرأة شرسة بلا قلب، يطول أذاها ابنها حسونة «أبو رجل ونص»، فاخر فاخر، وتستغل التائهة العمياء نعمة، فاتن حمامة، في أعمال التسول وبيع اليانصيب. سكيرة تتلذذ بالعنف الذى يبدو عندها هدفا في ذاته، ويتحول النشاط الإجرامى الفردى المحدود إلى عمل احترافى منظم متسع في «جعلونى مجرما»، ١٩٥٤.
شخصية «دواهي» دور لا يُنسى في السجل الإبداعى الثرى لنجمة إبراهيم، ودليل ساطع على تفوقها في تقديم الشر الذى لا يعرف خباياه سواها. زعيمة تقود رجالا أشداء يذعنون لأوامرها، وتسخّر عددا هائلا من الأطفال لأعمال النشل والتسول. إدارتها صارمة، وقاموسها يخلو من مفردات الحس الإنسانى كافة. تعذب الصغار كأنها تؤدى عملا روتينيا، وتتفنن في أساليب التهديد والابتزاز. وجهها المخيف حاد القسمات يسعفها على الصعيد الشكلي، وصوتها ترجمة متقنة للقسوة التى تسكنها.


مديرة الإصلاحية
ليس مستغربا أن تتألق نجمة في تجسيد شخصية مديرة الإصلاحية في «أربع بنات وضابط»، ١٩٥٤. الصرامة التى تلازمها أداتها الرئيسة في الإدارة والتعامل مع النزيلات اللاتى لا تعترف باحتياجهن إلى العطف والحنان، بل إن قسوتها تمتد إلى الحيوان فتقذف بالقطة من نافذة العنبر بلا تردد. تشتم وتضرب، وتواجه الضابط الحنون، أنور وجدى، بفلسفتها التربوية المتشددة المغايرة لما يتبناه من أفكار:«دول وش إجرام.. ما ينصاعوش إلا بالقسوة.. بالشدة.. بالضرب».
الإصلاحية، في ظل قيادتها، أشبه بالسجن الذى يعتمد سياسة «العقاب» دون تفكير في «الإصلاح»، وكالعهد بها دائما لا تقنع نجمة بالإطار الشكلى وأدواته التقليدية المتاحة لغيرها، ذلك أنها تغوص في أعماق الشخصية وتمسك بمفاتيح السلوك ودوافعه.


الأعظم في تجسيد شخصية المرابية 
احتراف الإقراض بالربا مهنة مرذولة جديرة بالازدراء والتقزز لمزيج من الأسباب الدينية والاجتماعية، وقد يختلف المرابون في الجنس والعمر وحجم النشاط الذى يقومون به، لكن ملامح تكوينهم النفسى تتشابه وتتقارب إلى حد كبير، ذلك أن الولع بالاستغلال والنهم في ابتزاز الزبائن المقهورين بالفقر والحاجة ينعكس بالضرورة على نمط التفكير ولغة الحوار وإيقاع الحركة. ليس من متسع للخلاف عند القول إن نجمة إبراهيم هى الأعظم في تجسيد شخصية المرابية، وهو ما نجده عند أم جابر في «حب في الظلام»، ١٩٥٣، وأم هلال في «الجريمة والعقاب»، ١٩٥٧.
لا تكمن عبقرية نجمة في المحاكاة الشكلية السطحية، ويتمثل تفردها الجدير بالإعجاب غير المحدود في الوعى بالأبعاد النفسية التى تترك آثارها في الفكر ونبرة الصوت وبريق العينين وطريقة المشى التى توحى بالإرهاق العمدى المصنوع المحسوب. تدافع أم جابر عن مهنتها الكريهة وتضفى عليها مشروعية زائفة تعى أنها مجرد كلمات لا تقنع أحدا:«ما بأخلص من قرّ الناس.. وأنا تاعبة روحى عشانهم.. عاملالهم شمعة.. أنور عليهم وأحرق روحى».
في الفيلمين، تصل نجمة إلى القمة التى تمثل تحديا مستحيل التجاوز لمن بعدها، ومن علامات النجاح أن تحظى بكراهية أصيلة تحول دون التعاطف معها والإشفاق عليها عند الوصول إلى محطة القتل، فمثل هذا المصير مستحق مبرر.
قبل شيوع الاستعانة بالأطباء في عمليات توليد النساء الشعبيات وعلاجهن، كان الاعتماد كاملا على الداية. المهنة تعبير عن تحالف الفقر والجهل، والعاملات في ساحتها خليط من الطيبات حسنات النية والشريرات الأقرب إلى المجرمات المحترفات.


الداية الشريرة
يتكرر تجسيد الفنانة الكبيرة لشخصية الداية، فهى أم بدوى في «رنة الخلخال»، ١٩٥٥، وأم هلال في «صراع الأبطال»، ١٩٦٢. لا تتورع الداية الأولى عن استغلال مهنتها في تحقيق مكاسب فاحشة من خلال سرقة وتبديل المواليد، في عملية احتيال ونصب ترقى إلى مستوى الجرائم الكبرى.
تتجاوز أم هلال النشاط المحدود لأم بدوى، فهى تلعب دور الطبيب في القرية التى يسيطر عليها الإقطاع في أربعينيات القرن العشرين. تعى أم هلال أن الطبيب الشاب، شكرى سرحان، يهدد قواعدها الاقتصادية الراسخة، ومن هنا تشن حربا عاتية شعواء ضده، ولا تتورع عن التهديد السافر الذى ينم عن إحساسها بالقوة:«وحق مين رماك في سكتى يا دكتور الغبرا.. لأوحل السكك تحت رجليك».
مع انتشار الوباء وخطورته، لا تملك إلا أن تقر بعلم الطبيب وتستنجد به عند إصابة ابنها الوحيد بالعدوى. بهذا التحول ينتصر الفيلم للعلم ويؤكد حتمية اندحار الدجل والشعوذة، لكن توبة الداية قرب النهاية لا تمحو هيمنة الشريرة نجمة وغياب الحضور المؤثر لطيبتها الاضطرارية.


أرستقراطية متعجرفة
في «أنا الماضي»، ١٩٥١، و«المرأة المجهولة»، ١٩٥٩، تبدو القسوة منطقية مبررة، فهى أقرب إلى رد الفعل في مواجهة الظلم الفادح الذى تتعرض له أمينة بسيونى وشقيقها في الفيلم الأول، ومعطيات الظاهر الذى يؤكد خيانة زوجة الابن في الفيلم الثانى.
التشبث العنيد بالتقاليد العائلية والقيم الأرستقراطية المتعنتة المتعجرفة، يدفع أم الدكتور أحمد، عماد حمدى، وشقيقته سعاد، زهرة العلا، في «الليالى الدافئة»،١٩٦١، إلى قسوة متطرفة تحطم حيوات الابن والابنة والحفيدة الطفلة. تنطع بلا ضفاف ينتهى بتحول مباغت لا يبدو مقنعا، والمشهد الأخير حيث الاعتذار والتراجع باهت هش، مقارنة بالمشاهد السابقة الحافلة بالغطرسة والتعالي، كأن نجمة إبراهيم نفسها لا تجد ما يقنعها بتغيير سلوكها المعهود.
بهية، زوجة سائقة القطار جابر، محمود لطفي، في «الحرمان»، ١٩٥١، أم بديلة مفرطة في القسوة على الطفلة منى، نيللي. تسخّرها في الأعمال المنزلية الشاقة، وتقص شعرها، وتجبرها على ارتداء الملابس القديمة المهلهلة لابنها، ما يدفع الفتاة إلى الهرب من فرط العذاب. زوجة متسلطة متغطرسة، ونزعة عدوانية سادية غير مبررة، وبلا دوافع مقنعة.
قرب نهاية رحلة نجمة مع السينما، تظهر شخصية العمة القاسية توحيدة في القصة الثالثة والأخيرة من «٣ لصوص»، ١٩٦٦. تلعب الممثلة الكبيرة خارج ساحتها المعتادة، والإطار الكوميدى لا يتوافق مع المدرسة التى تنتمى إليها وتتحقق من خلالها.


صوت عميق مخيف
«ريا وسكينة»، ١٩٥٣، العلامة الأبرز والأشهر في مسيرة نجمة إبراهيم، والبراعة في تجسيد شخصية ريا تصنع صورتها النمطية الشائعة التى تقترن بها وتجعلها الملكة المتوجة فوق عرش الشر.
زعيمة إجرامية محترفة بكل ما تعنيه كلمات الزعامة والإجرام والاحتراف، وتخطيط وتنفيذ جرائم القتل والسرقة ينم عن الذكاء المفرط. الحضور الطاغى للممثلة المتمكنة يفرض السطوة التى تزيح الآخرين وتجعلها المحور ونقطة الارتكاز بلا مزاحمة. صوتها العميق المخيف يبث الرعب، ومن العينين ينطلق بريق يشبه الشرر ويضفى على الوجه الحاد مزيدا من التجهم.
في عفوية صادقة على الرغم من الغرائبية، بالنظر إلى ما في كلماتها من مفارقة، تقول ريا كأنها تشكو من متاعب المهنة وهمومها:«قطيعة.. ما حدش بياكلها بالساهل.. الولية وأنا بنخنقها عضتنى في إيدي.. تقولش عدوتها».
الضحك وارد بطبيعة الحال، لكن الأداء بالغ الجدية، ذلك أن الزعيمة لا تعرف الهزل، والجانب الأكبر من نجاح نجمة مردود إلى يقينها بأن ريا تؤدى عملا، ومهنتها لا تختلف عن غيرها من المهن.
لأنه إبداع صادق متوهج مؤثر، تقتحم القلوب بلا عناء، ومن المنطقى عندئذ أن يطالع الكثيرون وجهها فيستدعون اسم ريا، وقد يغيب اسم نجمة إبراهيم.
ليست المسألة أن تكون الموهوبة المتمكنة نجمة إبراهيم يهودية تشهر إسلامها قبل سنوات طوال من تأسيس دولة إسرائيل، أو أنها عاشت وماتت على دينها القديم، فهى مصرية خالصة قبل أن تكون مسلمة أو يهودية. ما تاريح الفن المصرى إلا حصيلة جهد المصريين والمتمصرين والوافدين، دون نظر إلى هوياتهم الدينية وأصولهم العرقية، ومن هنا تتشكل خصوصية مصر وتفردها قبل أن يضربها الضعف والوهن، لكنها لا تموت.
لا تكمن عبقرية نجمة في المحاكاة الشكلية السطحية، ويتمثل تفردها الجدير بالإعجاب غير المحدود في الوعى بالأبعاد النفسية التى تترك آثارها في الفكر ونبرة الصوت وبريق العينين وطريقة المشى التى توحى بالإرهاق العمدى المصنوع المحسوب. تدافع أم جابر عن مهنتها الكريهة وتضفى عليها مشروعية زائفة تعى أنها مجرد كلمات لا تقنع أحدا:«ما بأخلص من قرّ الناس.. وأنا تاعبة روحى عشانهم.. عاملالهم شمعة.. أنور عليهم وأحرق روحى».