الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اليوتوبيا ولعبة المرايا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد أكثر بقليل من عشرين سنة من نشره لروايته هذه «علم جديد فاضل»، كتب ألدوس هكسلى سلسلة مقالات فكرية عنوانها «بالعودة إلى العالم الجديد الفاضل» (١٩٥٨) يتناول فيها الموضوعات التى دارت حولها روايته التنبؤية، وإنذاراته التى أوردها بشكل تخييلى بديع فيما يتعلق بمستقبل البشرية لو أنها واصلت فى إطار تبنى المعالم الفكرية والفلسفية التى كان العالم قد أوضح تنبيها لها فى أعقاب الحرب العالمية الاولى؛ التحليل النفسي، هيمنة التهيئة البشرية بدلا من حرية الاختيار، الفرويدية، الأديان البشرية المعاصرة، النظام شبه الإمبراطورى لحكومة شمولية الهيمنة متكئة على المراقبة الشديدة، عبادة المادة، المجتمع الطبقي، تهيئة البشر للقبول بمصيرهم عن طريق التعليم النظامى أثناء النوم، غلبة العلمى على الأخلاقي، دحض الفكرة الدينية، هدم الميراث القديم، الاستعلاء على التاريخ، تحديد أشكال الحياة من خلال تغيير الفرد والعائلة والصلات المجتمعية، هيمنة المؤسسات على الجماعات والأفراد معا.......الخ... وحتى من الاختراعات العلمية والبحوث النظرية التى اقترحها كقاعدة تخيلية لعمله الروائي، وعلى رأسها الهندسة الوراثية.
تنويعات
لماذا نسعى منذ أفلاطون خلف اليوطوبيات؟ ونتصور دوما صورها المشوهة على المرايا فى ما يسمى «الديسطوبيات» أو «اليوطوبيات المضادة»؟
إن اليوطوبيات وفقًا لتعريف البرتو تيننتى هى «ظاهرة ثقافية وعقلية متعددة الأوجه» وليست مجرد خيالات تهدف كما هو معهود إلى المتعة والترفيه بالدرجة الأولى. فى الواقع، لا تحرك اليوتوبيات الأييديولوجيات عموما، بل روح الملاحظة وروح النقد التى تعمل على درجة واسعة تشبه أن تكون عقائد كونية، أو أيديولوجيات عالمية، تنتهى إلى أن تشكل خزانة من الموضوعات المتكررة (...).
من هذا الموضوع تصبح اليوطوبيات أو اليوطوبيات المضادة عينا فصيحة للنظر صوب العالم الذى يحيط بهذه اليوطوبيا. إضافة إلى جعلها نفسها مؤشرا عقليا يقبع بين الفلسفية والسياسية، دون أن تظهر براعة كبيرة فى موضوع التنبؤ والتوقع الذى أعطى ذات يوم نفسه كاسم لهذا النوع الأدبى الخاص: «أدب التنبؤات»...وكما يقول ريكور: «إنها مسألة تأليف»... أى مزاوجة بين التفكير بعيدا عن الخيال، والتخييل لكشف خبايا التفكير... يقول ريكور دائما: «اليوتوبيا» ليست تيارًا للفكر، فكل يوتوبيا هى ثمرة التفكير والخيال والحساسية الخاصة التى تؤخذ فى موقف اجتماعى معين ولحظة تاريخية خاصة، تتعامل بها بطريقة خاصة. فتتنوع المواضيع التى تتناولها المدينة الفاضلة، ولكن يمكن للمرء أن يستخلص سمات مشتركة. «إنها تتعلق بجميع مجالات الفكر والنشاط البشري. (...) ومع ذلك، فإن تنظيم المجتمع ككل هو الذى يتعرض للخطر فى المدينة الفاضلة».
كانت نقطة الانطلاق فى كتابه العائد فى مقالات على يوطوبيا ألدوس هكسلى المضادة هذه هى اندهاشه من سرعة تحقق التنبؤات التى حملتها روايته، وسرعة الوصول إلى الكوارث التى أنذرتنا الرواية بها.
لقد تغير العالم فى السنوات التسعين التى بيننا وبين تاريخ صدور الرواية (١٩٣٢) مئات المرات أكثر مما تغير فى العشرين سنة التى كانت بين صدور الرواية وصدور الدراسة سالفة الذكر التى تعود إلى موضوعاتها.... وهذا ما دفعنا إلى العودة إلى هذه الرواية وترجمتها مجددا والنظر من كثب فى مظانها الفكرية والفلسفية.
بعيدا عن الجانب الخيالى العلمى الذى جرت العادة أن يقرأ الجمهور هذه الرواية من زاويته، أعتقد أن صورة العالم اليوم (٢٠١٩) لا تقف بعيدا عن صورته فى «عالم جديد فاضل» التى توقع الدوس هكسلى أنها لن تتحقق إلا بعد ستة قرون أو أكثر قليلا، فالعالم يميل إلى أن يَأهله أناس مبرمجون فقط كى يكونوا مواطنين صالحين خاضعين وديعين، وكى لا يفعلوا شيئا عدا ما قد توقعه لهم صانعو العالم والقيمون عليه، مع توسيع لأصناف المخدرات التى على رأسها ترسانة من الأدوية والمهدئات والمواد الصيدلية لعلاج كل شيء مما هو ضرورى وخاصة مما هو غير ضرورى علاجُه (التعب، الشرود، القلق، الأعصاب، عسر الهضم، عسر النوم، الحاجة البيولوجية، الرغبة الجنسية.... إلخ) والأهم من كل ذلك هذا النظام العالمى الجديد الذى صار واقعا ملموسا يسير به (ويفرضه) ساسة العالم فى الدول الأقوى عسكريا والأسرع نموا وتطورا على المستوى الاقتصادي.
نعيد قراءة رواية ألدوس هكسلى اليوم ونحن نعلم أن هنالك هيئات بأشخاص محدود عددهم يخططون لحروب تمحو دولا وتبيد شعوبا بأكملها، وأن هنالك أدوية ومعالجات جينية للبذور والمحاصيل تعمل على إشاعة العقم فى مناطق كثيرة الخصوبة، وأن هنالك خطابا سياسيا عالميا معاديا للقيم الدينية فى المطلق، ثم إن هنالك من يخطط للتحديد من التعداد السكانى لأجل تيسير عملية التحكم فيه، وأن هذا التحكم يمرُّ عبر تهيئة الناس من خلال تمجيد الإدارة والتسيير والمسيرين بشكل غير بعيد عن التمجيد الديني، تحكُّم مركزى إلى درجة أن بعض شئون الكرة الأرضية تقرره مجالس أو تشكيلات معلومة أو مجهولة تملك من السلطة مالا يطيقه إلا خيال الروائي، وما لا يقوى على التفكير فيه إلا كاتب من كتاب الخيال العلمي.
كل هذه المعطيات الكارثية صورها ألدوس هكسلى فى روايته التنبؤية الإنذارية «عالم جديد فاضل» رواية تحمل ملامح اليوطوبى دون أن تحملها حملا كليا، فهى يوطوبيا مضادة كما يسميها منظرو النوع، أى أنها لا تبشر بالعالم الفاضل الأمثل، بل بعكسه تماما.
فى ضوء هذا الواقع نرى أنه من المجدى لقارئ اللغة العربية أن يطلع على هذه الرواية القديمة المتجددة، والخالدة التى لا تبلى؛ التى تبقى مرآة فصيحة لقول العصر. لأن الأعمال الأدبية الكبيرة تحمل دائما دما يافعا لا يقبل المشيب ولا يدانيه البِلى وتملك القدرة الكبيرة على الكشف الذى أشرنا إليه بتعبيرنا «المرآة»، كل ذاك من خلال ترجمة أقرب إلى الأصل من الترجمة الوحيدة المتوفرة لهذا النص، والتى هى ترجمة منقوصة كانت منذ ستين عاما بمصر، وكانت ترجمة منقوصة حافظت على الحكاية وضحت بالمادة العلمية والمادة الثقافية.
خلاصات
وهى إذن «عودة إلى العالم الجديد الفاضل» ولكنها عودة عبر عبَّارة اللغة، لا عبر مشرط الفيلسوف كما فعل الروائى بعد مرور عشرين سنة على عمله كما أسلفنا.
هو نص ذكى مليء بالإشارات الثقافية التى قلما تتيسر إلا لكاتب مثل هكسلى الذى يروى عنه أنه أصيب لسنوات طويلة بعمى كلى شفى منه لاحقا، فكان خير ما يفعله لتزجية وقت فراغه هو الاستماع إلى قارئه الشخصى آنذاك وهو يتلو عليه مقالات بأكملها من الموسوعة البريطانية. وهو أيضا نص بديع يُقرأ بسلاسة كبيرة لشدة رشاقته التخييلية وتميزه الأسلوبي، نص يجعلنا على صلة مباشرة بأشرف المواقع فى الأدب الإنجليزي: ويليم شيكسبير... أليس العنوان مستمدا من تعبير «كاليبان» بطل مسرحية شيكسبير «العاصفة»؛ إذ إنه وجد على جزيرة نائية وجيء به إلى إنجلترا لتحضيره وتلقينه درس المدنية، فكان أن نظر إلى كل ما يحيط به وصرخ صرخة الإعجاب تلك: Oh brave new world!