الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فقدان الذاكرة الإلكتروني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يبدأ الأمر برعشة فى الأطراف، توهج فى ماء العين يلقى بريقًا على وجه من يراه، كأنه مدمن عبقرية، أو مراود للسهر عن ليلاته، كلمات متلاحقة النبرات متباعدة المعاني، ابتسامة لا تجيد مصاحبة الزمن، تظهر فى غير حينها، لأنه فقط تذكر شيئًا يحبه. شيئًا يحمله للرحيل عن مدينة الطرق الصفرية، والإجابات التى لا تقترب لأكثر من الرقم واحد. ساحر يهجر أرانبه وقبعاته إلى كهف لا يشتاق للنور. ولا يحتفظ بالخفافيش.. لا يستقبل الزوار ولا يسأل عن نزهات فى مربعات زاهية الألوان. إنها حالة مرضية شخصها بعض متخصصى المخ والأعصاب فى الولايات المتحدة الأمريكية. وقف أمامها الدكتور راين عاجزًا عن تسميتها. هى ليست مرضًا فيروسيًا ولا ميكروبيًا، وهى ليست عدوى يعرف مصدرها فيقتحم المرض خلاله. ولا يمكنه أن يرى تلك الهواجس تحت أى مجهر. هو فقط يرى أعراضًا ثم أعرضًا تتلوها أعراضًا. أطلق عليها فى النهاية: «فقدان الذاكرة الإلكتروني». 
صرنا فى عصر ينتقد فيه الكثيرون الصورة الطبيعية اليومية التى يظهر فيها كل إنسان منشغلًا عن العالم بجهاز من أجهزة التواصل مع شبكة الإنترنت، ففى أية مناسبة اجتماعية ستجد نسبة كبيرة من الحضور منشغلون عن بعضهم البعض بأجهزة الموبايل ومتابعة الأخبار، أو ربما الاستغراق فى حوار من الحوارات مع شخص ما.. ويعد هذا بالنظر لطبيعة العصر أمرًا ضروريًا. ففى الوقت الذى يمكنك فيه الإطلاع على ما يحدث فى العالم لا يمكن أبدًا منعك من ذلك بأى حال من الأحوال؛ لأن أحد أسباب عمل العقل هو الاستطلاع، كما تعد المعرفة أول مستويات الحياة فى كل أشكالها. هكذا لا يستطيع الإنسان مقاومة المعرفة غالبًا.
إلا أن كل ما سبق بدأ بتهديد ذاكرة الإنسان كما أشارت لذلك دراسة نشرتها الـ BBC شملت ستة آلاف شخص من بالغى المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا وهولندا ولكسمبورج، وتبين أن نحو ثلثهم يلجأ للكمبيوتر لتذكر المعلومات، إذ يستخدم الكثير من البشر أجهزة الكمبيوتر ومحركات البحث بدلًا من ذاكرتهم، ومن المقلق أن كثيرًا من البالغين عجزوا عن تذكر أرقام هواتفهم فى العمل أو أى رقم من أرقام هواتف أفراد عائلاتهم. الذى يحدث واقعيًا أننا فى كل مرة نستعيد فيها معلومة ما عبر الاعتماد على المخ تقوى ذاكرتنا وغياب عملية الاسترجاع هذه يفقدنا عنصر تقوية مهم للذاكرة، ومن ثم أوجد الاعتماد على خدمات الكمبيوتر كملحقات ذاكرة ما يُسمى بـ(فقدان الذاكرة الإلكتروني) الذى يشير لنسيان الأفراد للمعلومات اعتمادًا على إمكانية استعادتها عبر أجهزة إلكترونية.
يذكرنا هذا بما تداوله العالم فى بداية هذا العقد من الزمن وأسموه (ذاكرة جوجل) حتى أن بعض الباحثين صاروا يعتمدون عليها حين يدرسون آليات تذكر الإنسان للمعلومة كأمر يومى مسلم به فى حياة الإنسان العادى الطبيعية، إذ قدم جوجل لك أقوى ذاكرة دون أن تحتاج لحفظ حرف واحد.
ويشير هذا إلى أن تطوير إمكانيات الإنسان الآن يمكن أن يكون مهاريًا فقط إلى حد بعيد حين صار توفير المعلومة أمرًا مسلمًا به، إلا أن المهارة المعتمدة على تطبيقها ما زالت تحتاج للمران والإتقان، مما يعنى أن المتميزين يجب أن يبرزوا فى تطبيق بارع للمعلومة، أو فى الحصول على معلومات يصعب على غيرهم الحصول عليها وهو أمر صار صعبًا إلى حد بعيد فى ظل إتاحة المعلومات للجميع.
لا بد أن تستغل الذاكرة للمحافظة على قوتها، وصار عبء تقويتها مهمة فردية إلى حد كبير. عليك أن تبادر بحفظ بعض أبيات الشعر أو المقولات أو الأرقام حتى تقول لذاكرتك إنها مازالت بالنسبة لك أهم من (ذاكرة جوجل).
إن إتاحة المعلومات أصبح حتميًا إلى درجة أن عددًا ليس قليلًا من الباحثين أعلن أنه بالإمكان الآن أن تزرع شرائح معلومات مجهرية الحجم تمكن الإنسان من اللجوء لذاكرة بديلة فى أى وقت يريده بالتمرين على طريقة تعتمد على مجرد الاستدعاء الفكرى لهذه المعلومات عبر تدريبات فكرية تنتهى بإنجاز التوأمة بين الشريحة وزراعتها، حينها سيتجاوز الإنسان فكرة فقدان الذاكرة أو حتى النسيان الجزئي، إذ إن الشريحة المزروعة قابلة للتعديل وإعادة التغذية والاستبدال وقتما تريد وكيفما تريد. ويمكن أن تحذف منها ما تريد أيضًا. إلا أن الأمر لن يخلو من عدد من الأعراض الجانبية الجسدية، والأهم منها تلك الأعراض الجانبية العاطفية التى لم يتمكن الباحثون من السيطرة عليها مطلقًا لأنهم لم يتوقعوها أبدًا، فظل تفاعل الشريحة معها غير مناسب فى أحوال كثيرة نسبتها كبيرة لدرجة غير مرضية. فمن لا يحب معلومات معينة لن يتذكرها انتقائيًا فى حالة العقل البشرى الطبيعي، أما مواجهته بكل هذا السيل من الذكريات والمعلومات على نحو يصعب انتقاؤه، بطريقة العقل القاصر عن تذكر أشياء يريدها ولا يحبها، كان قاسيًا فى كثير من الأحيان إلى حد زيادة ضربات القلب بشكل غير مستحب، وربما الاقتراب من حالات اكتئاب.
أتذكرون سؤالنا فى أيام «التلمذة»: (يا ترى مسموح استخدام الآلة الحاسبة؟). إن هذا السؤال يحملنى الآن لتخيل صورة أظنها ستحدث قريبًا. يجلس طلاب كثيرون ينتظرون أن يتسلموا اختبارًا للقدرات للتقدم لإحدى الجهات. أمامهم أجهزة آلية يستخدمونها للإطلاع على اختبار القدرات وحل أسئلته. يظهر فى بداية الامتحان عبارة تقليدية اعتادها الجميع لدرجة أنهم لم يعودوا يلتفتون لوجودها من فرط شيوعها: «يسمح لك باستخدام محرك بحث Google».