الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات / «غفلة».. قصة قصيرة لـ «محمد الشربينى»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت الشمس قد مالت لتوها عن كبد السماء، حين فتح نافذة غرفته المطلة على الشارع الرئيسى للحى العتيق، ووقف يرقب المارة، لم يكن عبق البيوت القديمة والأحجار المتماوجة على أرضية الشارع، ولا تلك المساحات المشمسة والظليلة فوقهم تمثل له الكثير، لقد بدا كل شيء عاديًا تمامًا.
وبدا عاديا أيضًا أن يضيع نصف يومه أو يزيد في مراقبة المارة، يبحث بينهم عن كثب عن كلمات لم يذكروها، متثاقلا ورتيبًا يمر الوقت ببطء، كأن الشمس تمضى نحو الغروب والوقت لا يرافقها أبدًا.
لم يكسر هذه الرتابة إلا تلك الفتاة التى تحمل وردة، وهى تعبر الشارع متجهة صوب العجوز المتسول، وقد مدت يدها برفق وأعطته إياها، كانت نظراتها إليه حانية ومشفقة للغاية.
إلا أن العجوز بدا متململًا من تلك الوردة، أخذ يقلبها في يده وينظر إليها، لم يستطع إخفاء استهجانه حين قال:
- لكم هى جميلة حقا لو أن لها مكانا هنا..
اتسعت حدقتا الفتاة وأمالت رأسها قليلًا ناحية العجوز، كأنما تريد التأكد مما تسمع، لكنه أدرك أنها لم تكن لتفهم ماذا يعنى بذلك، فبادلها العجوز نظرة حانية ومشفقة للغاية.
عبرت الشارع عائدة وضاعت هناك وسط الزحام الذى بدأ يلوح في الأفق، لكنها لم تكن تعلم أن وردتها أيضا كانت قد ضاعت هنا.
لاحت له فكرة، مسرعًا غادر النافذة، وغاب داخل حجرته، جلس إلى طاولته الخشبية قبالة النافذة مباشرة، وبدأ في رسم شخوص روايته الجديدة وأحداثها، لم يمض الكثير من الوقت حتى كتب وبخط كبير نوعًا ما في آخر الورقة كلمة.. انتهي.
كانت الشمس مشربة بحمرة الغروب الوشيك، وبدأ الزحام يتسرب إلى الحى العتيق، مخفيا كل ما يمكن أن يراقبه هناك، نظر إلى ورقته، وكأنما أراد أن يطبعها برأسه كصورة، أشعل سيجارة سحب نفسًا عميقًا، نفثه وهو يقول:
- لا شيء يستحق العناء الآن أكثر من كوب من القهوة.
ذهب إلى مؤخرة غرفته أسفل النافذة الصغيرة ذات الزجاج المغبش؛ حيث وضع الموقد النحاسى وكل متطلبات قهوته على طاولة صغيرة هناك بعيدا عن صخب المنزل، فتح النافذة قليلا وبدأ يعد قهوته برفق.
أخذت رائحة القهوة تفوح، أغمض عينيه منتشيًا، سحب نفسًا عميقًا، أخذ يخرجه بهدوء، وقبل أن ينتهى فتح عينيه في مواجهة زجاج النافذة الصغير، وإذا بورقته تتهادى خلفه طائرة عبر النافذة الكبيرة، اتسعت حدقتا عينيه، أسقط القهوة من يده، هرع إليها مسرعًا، وإذا بها قد ذهبت بعيدًا في ظلام الغروب الآنف، لم يبق منها في ذهنه إلا صورة لجملة الخاتمة، هكذا يضيع كل شيء.