الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفلسفة وأخلاقيات مهنة الصحافة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تباينت رؤى الفلاسفة فى تناولهم لحرية الصحافة وليبرالية الإعلام، فقد اتفق جميعهم على رسالتها وغايتها، شريطة الالتزام بأخلاقيات المهنة ولا سيما العزوف عن نشر الأكاذيب والترويج للشائعات والتهوين والتهويل فى تناولها للقضايا. فقد تحدث هيجل عن ضرورة الرّقابة على الصحف وتقويمها؛ إذا ما نشرت أو روّجت لأخبار أو شائعات أو آراء ضدّ مصلحة البلاد؛ واشترط على من يعمل بالصحافة أو مخاطبة الرأى العام أن يكون على علم ودراية بالجانب الذى يتحدث فيه، وأن تكون أحكامه أقرب إلى الموضوعية منها إلى الذاتيّة؛ على أن يراعى فيما يقول طبيعة الرأى العام، وثوابت المشخّصات، وأصداء ما يصرّح به من رؤى وتصوّرات؛ أو نقدات لأجهزة الدّولة، وعلى الرّغم من معارضة جون لوك لأى رقابة تقيّد من حريّة الصحافة إلا أنّه جعل القانون وحده هو الضابط لحدود تلك الحريّة، وأضاف الإنجليزى بلاكستون فى هذا السياق أنّ الصُّحفى الكذوب يجب أن يعاقب؛ لأنه أسهم فى تزييف الوعى من جهة، وخالف القوانين التى تحمى المجتمع من جهة ثانية، وعلى الرّغم من تحيّز المفكر السويدى دينس ماكويل لحريّة الصحافة، إلا أنّه لم يغفل أمرين؛ أوّلهما: أخلاقيّات المهنة، وثانيهما: وعى المحرّرين؛ وذلك للحفاظ على الأخلاق التطبيقيّة الكامنة وراء رسالة الصّحافة والإعلام التنويريّة.
غير أنّ المفكرّين الليبراليّين المعاصرين -على اختلاف نوازعهم واتّجاهاتهم- قد أدركوا خطر هيمنة أصحاب رءوس الأموال على القنوات الإعلاميّة، الأمر الذى جعل منها أبواقًا لسياستهم، وسلاحًا ضدّ خصومهم - حتى إن كان هذا الخصم هو الدولة أو الحكومة أو القانون، الأمر الذى دفعهم إلى إعادة النظر فى حدود تلك الحرّية.
وفى عام ١٩٤٧م ظهرت العديد من الكتابات التى تحدّد الغاية من الصّحافة؛ وتتمثل فى: توعية المجتمع وتزويده بالمعلومات؛ التى تمكّنه من إدراك حقوقه وواجباته، والإحاطة بسياسة الدّولة، ومدى تمكّنها من معالجة المشكلات والقضايا الاجتماعيّة المختلفة، وتوجيه النّقد العلميّ لكل ما يتعارض مع مصلحة البلاد، وكلّ ذلك مشروط بشرطين؛ أوّلهما: الصدق، وثانيهما: مراعاة حريّة العقل الجمعى بكلّ أطيافه ومعتقداته.
ويضيف الأمريكى دينيس ماكويل: أنّ من حق المجتمع والرأى العام القائد أن يضع مواثيق شرف لآداب وأخلاقيّات مهنة الصّحافة؛ وذلك حتى لا تصبح أجهزة الإعلام وما تنتجه من آراء وأخبار خاضعة لمنطق السوق؛ الذى يصبح به المال هو المهيمن على مقدّراتها، والمتحكّم فى كيانها.
وعلى الرّغم من البون الشاسع بين الليبراليّة والاشتراكيّة إلا أنّنا يمكن أن نقف على بعض نقاط الاتفاق بينهما تّجاه حريّة الإعلام؛ وتتمثل فى: حرص كلتا النّظريتين على ضرورة توخّى الحذر من جهة الإعلاميّين فيما يصرّحون به من آراء وأخبار للجمهور، فالصدّق والبحث عن الحقيقة والنقد الإصلاحيّ هى القيم التى يجب أن تتصدّر مواثيق الشرف المهني، وقد دعّمت هذه القيم نظريّة «المسئوليّة العالميّة والدوليّة للصحافة»؛ التى وضعها المفكّر المصرى مختار التّهامى عام ١٩٨٥م - وقد سبقه إلى ذلك أحمد لطفى السيد الذى دافع عن حرية الصحافة فى لائحة النقابة التى أنشأها عام ١٩١٢م وهو الذى دعا لإلغاء قانون المطبوعات ثم نادى بعودته عندما انتهك بعض الصحفيين أخلاقياتها فى أخريات العقد الثالث من القرن العشرين -، وكذا نظريّة «صحافة التنمية»؛ التى جعلت الحفاظ على التماسك الاجتماعي، وإحياء الأمل فى أفراد المجتمع، والعمل على نشر السلام بين طبقاته، وبعث الثقة بين الحكومة والجمهور، ومحاربة الشائعات؛ التى تعمل على تمزيق المجتمع وتصارع فصائله؛ هى القيم الرّئيسة التى يجب أن تتحكّم فى سلوك كل من يعمل فى قنوات التواصل الجماهيري.
وما برحت الفلسفات التطبيقيّة المعاصرة تنادى بضرورة وضع ضوابط لمهنة الإعلام؛ وذلك لإنقاذه من آفات الفساد؛ المتمثلة فى حريّة الشائعات، والتشكيك فى ثوابت مشخصات الهويّة للمجتمعات، والعمالة والتبعيّة، والاتجار بالخبر والمعلومة لمن يدفع الثمن. ذلك فضلا عن البذاءات التى يتلفظ بها المشتغلون بهذه المهنة، بداية من الفحش فى اللفظ ونهاية بالسب والقذف والخوض فى الأعراض بغية الحط من شأن الخصوم ولاسيما الذين حظوا بمكانة عالية وتقدير رفيع فى عيون ذويهم. 
أمّا النظريّة الإسلاميّة فقد اتّخذت موقفًا وسطًا بين الليبراليّة والاشتراكية؛ وتتمثل فى الحكم على أى عمل من منظور فقه المآلات؛ فكلّ خبر أو رأى يهدّد السلام الاجتماعى والأمن يعدّ إفسادًا يجب محاربته ومعاقبة فاعله. ناهيك عن تجريمها وتحريمها التنابذ بالقول والشتم. واجتمع فلاسفة السياسة المسلمين، وعلى رأسهم الماوردى على ضرورة توجيه النقد للولاة والوزراء والحكام دون أدنى مساس بشخصياتهم بل يجب أن ينصب النقد على التصرفات والسياسات والأحكام وذلك بقدر موفور من الأدب والاحترام والتبجيل.
وأعتقد أن ما نقرأه ونسمعه ونشاهده فى أجهزة الإعلام وعلى صفحات العالم الافتراضى لا يمكن وصفه بأنه إعلام أو إدراجه ضمن آليات النقد البناء وتوعية العقل الجمعى وحثه على تقويم المعوج أو إصلاح ما فسد أو مقاومة الظلم. وإذا قال قائل إن ما نراه هو ضرب من ضروب الجيل الرابع والخامس من الحروب المعاصرة فإننى أكرر أن مثل ذلك الفعل لا يمكن قبوله بل من الواجب مناهضته ومنعه ومحاربته وتجريم كل من يشارك فيه، ولعل أفضل الأسلحة التى يمكن استخدامها فى هذه الحرب غير الأخلاقية هو التفكير الناقد وتوعية الرأى العام عن طريق اللقاءات المفتوحة حيث المصارحة من قبل المسئولين واحترام الرؤى المغايرة والعزوف عن الخطب الرنانة وحلو القول وأسلوب الوعظ. كما يجب على قادة الرأى التسلح بالبراهين والأدلة الدامغة التى لا تقبل تشكيك أو تزييف.
فهل يعى شبابنا مسئولياته والحفاظ على حقه فى الحرية والزود عن مشخصاته وحماية أوطانه؟.