الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

تراثيات.. العاقل والمجنون في ليالي أبي حيان التوحيدي

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ذكر الفيلسوف والأديب أبو حيان التوحيدى في كتابه "الإمتاع والمؤانسة" أن الوزير أبا عبدالله العارض وزير ابن عضد الدولة البويهي، سأله في الليلة الواحدة والثلاثين التي سامره ونادمه فيها، عن أمور تتعلق بالرأي في الحرب والحزم والتيقظ وقلة الاستهانة بالخصم، ثم تطرق الكلام إلى رسائل المجانين ومنها إلى علاقة المجنون بالعاقل.
فقال "التوحيدي": كتب مجنونٌ إلى مجنون "بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله، وأبقاك الله، كتبتُ إليك ودجلة تطغَى، وسفن الموصل ها هي، وما يزداد الصبيان إلا شرٍّا، ولا الحجارةُ إلا كثرة، فإياك والمَرَق فإنه شر طعامٍ في الدنيا، ولا تَبِت إلا وعند رأسك حجرٌ أو حجَرَان. فإن الله يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾
قال: وكتب مجنونٌ آخر"أبقاك لله من النار وسوء الحساب، وتفديك نفسي موفَّقًا إن شاء الله".
قال: وكتب مجنون آخر إلى مجنونٍ مثله: وهَبَ لله لي جميعَ المكاره فيك! كتابي إليك من الكوفة حقٍّا حقٍّا حقٍّا، أقلامي تخُطُّ، والموتُ عندنا كثير، إلا أنه سليم والحمد لله.. أحببتُ ليعرِفَه إعلامُكم ذلك إن شاء الله. 
فضحك -أضحك الله سنه- حتى استلقى، وقال: ما الذي يبلغ بنا هذا الاستطرافَ إذا سمعنا بحديث المجانين؟
فقال ابن زُرعة: لأن المجنون مشاركٌ للعاقل في الجنس، فإذا كان من العاقل ما يُحْسب أن يكون من المجنون كُرِه ذلك له، وإذا كان من المجنون ما يُعْهد من العاقل تُعُجِّب منه.. والعقلُ بين أصحابه ذو عَرضٍ واسع، وبقدْر ذلك يتفاضلون التفاضلَ الذي لا سبيل إلى حصره، وكذلك الجنون بين أهله ذو عَرضٍ واسع، وبحسب ذلك يتفاوتون التفاوت الذي لا مطمع في تحصيله. وكما أنه يَبْدُر من العاقل بعض ما لا يُتوقع إلا من المجنون، كذلك يبدر من المجنون بعض ما لا يُتوقع إلا من العاقل، ولا يُعْتدُّ بذلك.
ولا بهذا، أعني أن العاقل بذلك المقدار لا يُرَى مجنونًا، والمجنون بذلك المقدار لا يُسمَّى عاقلًا، وإنما اجتمعا في النادر القليل لاجتماعهما في الجنس الذي يعُمُّهما والنوعِ الذي يفصلهما، وفي الجملة الإنسان بما هو به حيوانٌ سبُعٌ وحمار، وبما هو به نفْسيٌ إنسان، وبما هو به عاقلٌ نبيٌّ وملَك، وهذه الأعراض وإن تَدَاخَلَت لانتظامها في طينة واحدة فإنها تتميز بقوة العقل في الصورة المخلوطة إما مفارَقة وإما مواصَلة. ومر له في هذا الموضع كلامٌ بليغٌ تامٌّ مكشوف.