الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

وجهان «أو أكثر» للعملة الفلسفية الواحدة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لسنوات طويلة بعد قراءة «خفة الكائنات التى لا تطاق» لميلان كونديرا، ظللت أتساءل وأنا أتابع الاهتمام الكبير الذى يحظى به الكتاب فى العالم عن السر فى كل ذلك، وأعدت القراءة مرارا دون أن تستوقفنى الإحالات الفلسفية الكثيرة التى تقبع داخل النص... مر زمن قبل أن أضع اليد على نقطة مهمة لا تتضح بيسر... فى الجزء الأول من روايته، يرسم المؤلف باقتصاد لغوى وإيقاع بطيء لا يوحى بشيء، ولكن ببراعة سردية كبيرة إحساسا عميقا بالخسران وكيفية تجرعه فى الحياة اليومية، حيث يشعر الأبطال بالسوء فرادى وجماعات. وضع بشرى متأرجح دائما. حركة قلقة صوب الآخر دون أن تشعر أى شخصية أبدًا بالتحسن فى أى من المواقف أو الحالات الأخرى. هذا الجزء الأول هو أيضًا ميدالية بوجهين هما الزوجان توماس وتيريزا. فنحن نرى الوضع نفسه مرة بعينى الزوج ومرة بعينى الزوجة، وسط قصة تبدو بلا أحداث مهمة... وبلا تقدم كبير فى الأوضاع البشرية للأشخاص.
السؤال المطروح هنا: أليس ما يفعله كونديرا هو نفسه ما تفعله الفلسفة؟
ألسنا مع كل كتاب فى الفلسفة ننطلق عالمين بالقضايا كلها وبتاريخها ولكننا ننخرط - شعوريا وعقليا فى الآن نفسه - فى إحساس جديد بهذه القضايا كأننا نكتشفها لأول مرة؟
تنويعات 
يتساءل صديقى المولع بكتاباتى الفلسفية: هل يمكننا أن نحلم بأطلس فلسفى مادته الأوضاع الروائية الممكنة كلها؟ أو بشيء كالبرنامج الكامل لعلم الوجود النقى ontologie pure الذى كان يتحدث عنه جيل دولوز، ولكنه برنامج لن يتجاوز السرد، ولن يحتاج أصلا إلى تجاوزه؟
وفى محاولة لعدم الإجابة - لأن هذا ما نفعله لكل شيء فى العالم - يبدو لى التاريخ مولعا بإغراق السمك فى الأحواض (كما يقول التعبير الفرنسى الشهير)... لأننا غالبا نحاول أن نستبدل نظرة غامضة معقدة صوب الأشياء والعالم بنظرتنا الواضحة. لا أحد يسأل نفسه أو ينبه التاريخ؛ هل يمكن أن نغرق سمكة داخل حوض هو وسطها الطبيعي؟... 
كذلك يعن لى خاطر غريب هو السؤال الذى ربما لم يطرحه سبينوزا على نفسه حينما تصور ضربة الخنجر التى تعيش معنا والتى جعل أثرها على المعطف. ماذا لو أننا عالجنا الندوب وغيرنا المعطف؟ وهل أننا تعيش بلا ذاكرة بسبب تطور الجراحة التجميلية مثلا؟
أسئلة ننتظر من سبينوزا أن يجيبها. والغالب أن الانتظار من نفس جنس انتظار غرق السمك داخل الحوض.
صديقى الفيلسوف الشاب يبتسم قائلا: أجمل ما فى الفلاسفة ميولهم الأدبية القوية، وأجملها فى الأدب أسئلته الفلسفية الجريئة.
تعلمنا فيرجينيا وولف أن الحياة كلها لا معنى لها حسب برنامجها السردى الفلسفى عدا فى المواقع الحميمية للتقاطعات بين الحكايا الصغيرة التى تكاد تكون خالية من كل كثافة لناس بسطاء... إنها تكسر أفق المجتمع البشرى كله من خلال قصصها المسطحة بشكل ينسيك أصلا وجود العمق أصلا... وذلك جوهر الخفة التى يراها كونديرا فى الحياة الأوروبية، والتى يقابلها هو التشيكى الآتى من أفق ثقل كبير (وجدية مبالغ فيها حد السخافة) يميز الحياة الموروثة عن روسيا الشيوعية.
ينبهنا جاك رانسيير - من زاوية مغايرة - إلى مسألة مهمة حول طريقة تعاملنا وتفاعلنا مع أشياء الحياة، مع مختلف الوضعيات التى تقابلنا فى حياتنا، فهو يقول بأن: «جوهر ممارسة المعرفة فى العالم كله متمحور حول السؤال: ما رأيك فى كذا وكذا؟ وبالتالى فإن كل طاقة العملية التعليمية متجذرة فى الوعى «بالتحرر» الذى يتم تحديثه فى المعلم وإثارته فى المتعلم». (المعلم الجاهل، ص٦٠)... ولا أحد يذهب إلى أبعد من ذلك فيطرح سؤالا يتسرب بوضوح من وضع ميلان كونديرا، إذ يبدو كونديرا كأنه يطرح سؤالا مختلفا: ما رأيك فى رأيك حول كذا وكذا؟
قد يكون بطل أطروحة ألبير كامو «الرجل الثائر» أكثر نباهة من باقى أبطال القرن العشرين الذين يعيشون المأساة بانتفاخ كبير يجعلهم يعتقدون بأنهم يسيطرون على سير الأحداث (وهذا جوهر الثقل البارمينيدى الذى يحيل غليه كونديرا بشكل عار فى روايته). وقد كان كامو يسأل على لسان قلب بطله: ماذا يفعل الرجل الثائر... يغير الحياة أم يحسن ظرفها؟ 
والسؤال الذى يخرج من صلب هذا هو: إلى أى حد ندفع بيقينياتنا؟ ماذا نفعل عندما تصبح ثوراتنا - الصاخبة أو الصامتة - عارمة بشكل شمولي؟...
يبدو أننا سننسحب من الحياة بطريقة أبطال كونديرا. ننسحب لفائدة الوقت الذى لا يمر.
يفكر فى هذه المسألة دولوز وغواطارى بطريقة مختلفة ومتميزة تربط العالم بالمكتوب وتستدل على خرائط الوجود بمواقع الكتب (وهذا هو أحد المسارات ما بعد الحداثية بامتياز)، فهما يطرحان السؤال حول جدوى تقليب جسد الأفكار الذى نحن بصدده على عدة وجوه، فيقولان فى مقدمة كتابهما البديع الشهير «ألف طبق»: إننا لا نتحدث عن شيء آخر، سوى عن التعدد، والخطوط، والطبقات، والتجزيئات، وخطوط الهروب، والكثافات والتوهجات، والتركيبات الآلية وأنماطها المختلفة، والأجساد بلا أعضاء، وعملية بنائها وانتقائها، ومستوى التماسك، ووحدات القياس بالنسبة لكل حالة. فمقاييس الطبقات والأزمنة ووحدات الكثافة، ووحدات التقارب لا تشكل فقط تحولًا كميا للكتابة (أى للحياة)، بل تحدد الكتابة (أى للحياة) باعتبارها دائمًا قياس شيء آخر، فلا علاقة للكتابة بالدلالات، بل هى مقترنة بمسح الأراضى ووضع الخرائط من أجل مناطق آتية فى المستقبل».
وأول شكل للكتاب، هو الكتاب - الجذر. فقد كانت الشجرة هى صورة العالم، أو بالأحرى كان الجذر هو صورة شجرة العالم. 
من أى جانب ننظر إلى شجرة حينما نكون زوجين متعودين على زاوية النظر الواحدة وتواقين إلى الاختلاف فى ظل الجوار المفروض؟ هل نغير زوايا النظر صوب شجرة الحياة؟ أي: هل نقسم الكتاب إلى نصفين متقابلين وكل واحد يسرد حكايته على حدة؟ 
صورة شجرة العالم هذه - حب التصور الدولوزى الغواطارى دائما - كانت بمثابة الكتاب الكلاسيكي، باعتبارها جوانية عضوية، جميلة، دالة وذاتية (مثل طبقات الكتاب). ويحاكى الكتاب العالم مثلما يحاكى الفن الطبيعة، وذلك بواسطة إجراءاته الخاصة التى تنجح هناك، حيث لا يمكن للطبيعة أو لم يعد بإمكانها تحقيق النجاح. فقانون الكتاب هو قانون التفكير، الواحد الذى يصبح اثنين. وكيف يمكن لقانون الكتاب أن يتواجد داخل الطبيعة، ما دام يشرف على عملية الفصل بين العالم والكتاب، وبين الفن والطبيعة؟
ليس كل ذاك ببعيد عن ترسيمة كتاب حياة بطلى كونديرا... شخصان متقابلان يتبادلان تراجيديا، وينظران صوب الجسد التراجيدى نفسه فيريان حقيقتين تتفننان فى تجاوز إحداهما الأخرى. 
يمكننا داخل المقهى الميتافيزيقى الذى ألتقى فيه أنا وصديقى القارئ وجملة من مفكرى وحكّائى العالم أن نعيد النظر فى مقوله هيغل الشهيرة «العقلانى واقعى والواقعى عقلانى ولا برزخ بينهما»... البرزخ بينهما سيكون كتابًا أولا يكون.
خلاصات
مواجهة التفاهة بأسلحة الفهم. هى نفسها المسألة التى استوقفت شيكسبير وهو يتحدث عن التاريخ البشرى بلسان أحد أبطال «ماكبث»: «حكاية مليئة بالصخب والعنف يرويها مجنون». هذه هى الحياة وهذا هو التاريخ بعيون شيكسبير، وهذا مدخل رواية فولكنر، وكذا سر عنوانها: «الصخب والعنف».. رواية كرواية كونديرا تعرض علينا ترسيمة فلسفية مبكرة من خلال حدث واحد نراه من أربع زوايا مختلفة. 
ذلك جوهر الفلسفة والطريق الأضمن لالتقاط الجيوب والطيات التى يبحث عنها دولوز وصاحبه بلا هوادة فى محاولات الفهم.
الفهم هو نفسه ما كان يريده مارك توين حينما دون رائعته الهزلية الفلسفية «يوميات آدم وحواء»، وقد روى لنا انطباعات آدم على الأرض فى يومياته السرية فى الجزء الأول من الكتاب، لكى يفرد الجزء الثانى للأحداث والوقائع نفسها منظورا إليها من زاوية حواء التى كانت تدون يومياتها هى أيضا خفية.
يقترح ميلان كونديرا صورة تبت بيسر فى هذه المسألة حينما يجعل الحياة سيمفونية فيها «يحول الكائن البشري، مسترشدًا بشعوره بالجمال كل حدث عابر (موسيقى بيتهوفن، موت فى محطة قطار) إلى فكرة من شأنها أن تكون جزءًا من نتيجة حياته، أو نوطة على معزوفة حياته». (الرواية، ص ٨١ من الترجمة الفرنسية).