الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كتاب «مواد البيان».. والوزارة في التراث المصرى «2 - 2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونواصل حديثنا الذى كنا قد بدأناه بالأمس حول كتاب قيِّم من التراث المصرى، لأديب مصرى اسمه على بن خلف من كُتَّاب العصر الفاطمى، عنوانه: «مواد البيان» عقد فيه فصلا نادرا عن الوزارة ومفهومها وشروطها يمكن أن يكون مفيدا لهم في القيام بمهامهم. فنستكمل اليوم ما بدأناه بالأمس.
قديما سخر الشاعر العربى من حمق قومه لغفلتهم عن هذا الميزان، إذ يعكسون الآية، فيحسنون إلى مَن أساء إليهم، ويسيئون إلى من أحسن إليهم، خلافا للعرف العربى، وتخاذلا عن الحماسة العربية:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وما أجمل أن يأخذ الوزير بالتقوى، وأن يعدل عن الهوى، وأن ينصر الحق ويدحض الباطل فينصر صاحب الحق وإن كان عدوه، ويمنع صاحب الباطل وإن كان نصيره، تحريا للعدل.
ومما يستحب في الوزارة أن يكون صاحبها «سهل الحجاب، مفتوح الباب، لطيفا باللهيف المظلوم، عسوفا على الغشوم الظلوم».
فيجعل بابه مفتوحا يلجأ إليه المظلوم، فينصفه، ويروع الظالم بحزم وشدة، مع التأنى في العقاب حتى يتبين وجوبه على من يستحقه. والعطف على المظلوم الملهوف، والعسف بالظالم المعتدى من حسن استخدام اللين في موضعه، والقوة في موضعها، وإحكاما للعدل، وكأنه تناص بالقول الشهير لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، وقد أشار إلى أن القوى – عنده- ضعيف حتى يأخذ الحق منه، وأن الضعيف قوى حتى يأخذ الحق له. وصيغ المبالغة بالغة الأثر في تصوير هذا المعنى، فالمظلوم لهيف، والظالم ظلوم غشوم، وصاحب السلطة عسوف على الظالم ليقتص منه للمظلوم، ويطرد مفهوم الوزارة الذى يجعل الوزير «محبا للخير، مستكملا شرائط المروءة وأقسامها، في سعة المنزل والطعام، وجودة الفرش والثياب، وعطر الرائحة، وفراهة الدواب، وكثرة الأصحاب من غير مبالغة تُطغى وتزدهى، ولا تقصير يغض ويغمض».
وهذه المثاليات الرفيعة في الوزير مما سبق، ومن كونه محبا للخير، محققا لأركان المروءة، وهى الجامعة لكل جميل من الصفات الإنسانية، لا تعنى حرمانه – باعتدال- من متاع الدنيا، وأبهة الرياسة.
فله الحق أن يكون صاحب منزل واسع، وأن يطيب مأكله، ويجيد ملبسه، ويعطر رائحته، ويملك جيدا ما يركبه، ويكون له كثير من الصحاب لتتوافر له الحاجات التى تحقق له الكفاية مما يغنيه عن البحث عنها إذا كرِم منها، ليقوم بمهامه في شرف، وعزوف عن النظر إلى ما لا يحل له من المال العام، ونزوع إلى التجرد والنزاهة والانصراف عما يشين.
وتوافر النعم لأصحاب الوزارة – في توسط- من رغد العيش، ووجاهة السلطة حَرِيّة ألا تؤدى بهم إلى الغرور والبطش بالناس، لكنها داء.. إلى الموازنة بين الاعتداد بالذات في غير مبالغة إنسانيا، ولا تقصير عمليا.
ويجب على الوزير - أيضا- أن يكون «متجنبا للغضب، قليل اللهو والطرب، مداوسا للتجارب، ملابسا للنوائب، عارفا بتصرف الأحوال، عالما بوجوه الأموال، ومصالح الأعمال، مستوفيا لحقوق السلطان من غير حيف على معاملته ورعيته، معتمدا للإنصاف لهم، والانتصاف منهم». فثبات النفس، وتجنب الغضب من فضائل الوزير، وجديته وقلة اكتراثه باللهو مما يعطله عن أداء عمله كما يجب من عوامل نجاحه. ولعل تحذير «على بن خلف» من الميل إلى الطرب مقترنا باللهو يوضح أنه ليس ضد الطرب فنا جميلا إيجابى الأثر، بل لعله يعنى ما يتصل بألوانه الفاسدة التى لا تعد من الفن الجميل الراقى.
ولقد ابتلى التراث العربى بربط فساد بعض الخلفاء بالغناء والطرب واللهو والمجون، وموسوعة الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى حافلة بذلك لكن الصحيح أن الطرف فن معتبر في التراث العربى، فاعل إيجابيا في الحياة العربية. أما تصور أنه مفسد أو حرام فهو تصور يعمم في غير دقة، فيجعل ما ارتبط به من مجون وخمر وتنكب عن المروءة الإنسانية، والمسئولية العملية حكما عاما لا يصح على الصالح منه فنا جميلا متسقا مع الفطرة الإنسانية الجميلة.
أما تعبير أن يكون الوزير «مداوسا للتجارب» فبالغ الدلالة على خبرة مباشرة الأمور، ومعرفة الأحوال،ومعانية الأمور الصعبة، كما في قول «على بن خلف» في صفة الوزير «ملابسا للنوائب»، «عارفا بتصرف الأحوال»، كما أن الوزير الصالح هو الذى يستطيع معرفة أحوال الدولة الاقتصادية، واتباع الحكمة في تصريف أمورها المالية، وتوجيهها التوجه الرشيد السليم. وهو الذى يعين الدولة من غير ظلم للرعية، مقيما ميزان العدل في إنصاف المظلوم، وعقاب الظالم.
وأن يكون «مقدما أهل الفضيلة والدين والغناء، مستكفيا للكفاءة، عارفا لذوى البيوتات والرتب وأقدارهم ومنازلهم، منزلا لهم بحيث يستحقون منها». والاهتمام باستخدام العلماء والأدباء الفضلاء من أسس تمكين الدولة، وعلى صاحب السلطة، كالوزير، أن يختارهم للمشورة، وتوجيه الأمور للصالح العام. ويجب على الوزير أن يعرف أقدار الناس، وأن ينزلهم منازلهم تحقيقا للتماسك الاجتماعي الذى يوطد أركان الدولة. ثم على الوزير أن يكون «بصيرا بمكايد الحروب، ومعاجمة الخطوب، وتدبير الدولة، وسياسة الرعية، عارفا بما يعتمد كل طبقة منها من عسف ولطف وخشونة ولين، وما يصلح عليه من السِّيَر المتضادة، لا يشغله كبير أمر عن صغيره، مقدما للحزم، عاملا بالعزم، ناظرا في العواقب، مخلص النية، صحيح الطوية».
وهنا نصل مع مؤلِّف هذا الكتاب إلى كمال صورة الوزير المثالى الخبير بدروب الحرب، وقيادة ميادينه، ومواجهة تقلباته. وهو الوزير القادر على التعامل الجيد مع مختلف المواقف المتأزمة الشديدة، والقدرة على تصريف شئون الدولة، وتدبير مصالحها، وسياسة أهلها باللين في موضعه، والشدة في موضعها ليكون الثواب والعقاب ميزانا حاكما عادلا لمكافأة المحسن وعقاب المسيىء.
كما أن الوزير الكفء يهتم بصغير الأمور وكبيرها، لا يستهين بشىء حزما وعزما ونظرا لعواقب الأمور، مع نقاء السريرة وإخلاص النية.
ولعل هذه الصورة المثالية التى رسمها التراث المصرى للوزير هى الصورة التى نتمناها للفرد والجماعة، وكل مسئول في موقعه، وفق حديث، لرسول –ص- أنَّ كل راع مسئول عن رعيته. كما أننا لا نجد – واقعيا- هذه الصورة المثالية في وزير أو غيره لأن الكمال لله وحده، ولكنا نأمل أن يجتهد هذا الوزير، وأن يتحرى محاسبة نفسه إذا قصر، أو أخطأ، أو فكر في طريق من طرق الفساد ليسعى في تحقيق ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.