الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب .. عباقرة الظل

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بجسده الضئيل النحيل، ووجهه المصرى القح، وعينيه الزائغتين الحائرتين؛ ينوب الفنان القدير عبد السلام محمد عن ملايين المصريين، القدامى منهم والمعاصرون. هو مثلهم متعب مريض، يتعرض معهم للسلب الشرس المنظم منذ آلاف السنين، ومثلهم يقاوم بالفعل ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، أو بالحيلة والسخرية والصبر عندما تضيق الدنيا وتتجهم. العاديون الفقراء البسطاء من أبناء الوادى لا يصعدون إلى المناصب العليا، وعبدالسلام محمد لا تُسند إليه أدوار البطولة، ولا يطل اسمه في صدارة الأفيشات.. يقنع بالقليل الذى لا يليق بحجم موهبته، ويغادر الدنيا في هدوء يتوافق مع حياة وديعة تخلو من الضجيج.


فلاح بلا اسم
في «يوميات نائب في الأرياف»، يواجه اتهامًا من النيابة بسرقة «كوز ذرة»!. لا ينكر التهمة بقدر ما يبررها:«من جوعى».
كأنما يريد المساعد الشاب لوكيل النيابة أن يفحمه عندما يطالبه بالعمل بدلًا من السرقة، وتأتي إجابة الفلاح المعدم فاضحة للنظام كله، فهو يرحب بالعمل ولا يجده.
مثل هذا الفلاح المسكون بالأمراض والمقهور بالفقر والجوع، يجد في السجن مكانًا أفضل. ألا يعنى طعامًا مجانيًا مضمونًا؟
مشهد قصير غني بالدلالات ويعرى جوهر النظام الذى يصنع الفقر ويضطهد الفقراء، ويأبى أيضا إلا أن يحملّهم مسئولية الخلل الاجتماعي الذى يدفعون وحدهم ثمنه.
الطعام المجانى في السجون لا يعني أنها البديل الآمن، فهى خاضعة بدورها للقوانين الطبقية التى تحكم الحياة المصرية، حيث السلطة والسيادة للسجناء الأغنياء الأقوياء، والإذلال والقمع من نصيب الفقراء الضعفاء.


«ليل وقضبان»
يقدم عبد السلام دورًا قصيرًا متميزًا، فهو السجين الذى يعيش في ظل القاتل المحترف الجبار، أحمد أباظة، ويحظى بحمايته في عالم لا متسع فيه للرحمة. يدفع الثمن من شرفه متخليًا عن رجولته، وعلى من يدينونه ويسخرون منه أن يتسلحوا بقدر من الإنصاف: هل يملك بديلًا؟. شذوذه الاضطرارى لا ينفي إنسانيته، وليس أدل على ذلك من عينيه اللتين يتابع بهما المآسى، ويقدم شهادة عن الذعر والقهر ولعنة الخضوع.
عذابات العلل
في المهن الشاقة عذابات تجلب العلل والأمراض، وعند السقوط في الهاوية، تفضى الطرق جميعً إلى الموت. في «الفرن»،، تتجلى حقيقة إن شيئًا جوهريً لا يتغير في الواقع المصرى. الحصول على عمل لا يمثل ضمانة للاستقرار المادى والمعنوى، ولا يعنى الوصول إلى الحد الأدنى من متطلبات الحياة الإنسانية السوية. عبد السلام ذو الجسد المهيأ للأمراض الفتاكة، عامل في فرن يملكه ويديره طاغية بلا قلب، عادل أدهم، والحوار بينهما يسبقه سعال عنيف ينبىء بالمرض المترتب بالضرورة على الظروف القاسية المصاحبة للمهنة.
يتحقق عبدالسلام ويتوهج في تعبيره العفوى الصادق عن أصحاب المهن الهامشية الصغيرة المتواضعة كما نجد في «ضربة شمس»، ١٩٨٠، و«الغول»، ١٩٨٣، و«المتمرد»، ١٩٨٧، و«سمارة الأمير»، ١٩٩٢، وما يشبه ذلك من الشخصيات المهمشة المنتمية إلى القاع الطبقي في المجتمع المصرى. لا شىء عند هؤلاء إلا الفقر والقهر، ولا أحلام تداعبهم إلا الاستمرار في الحياة؛ مجرد البقاء.
مثل المصريين الذين ينوب عنهم، قد يرتقى عبدالسلام قليلًا في المهن التى يجسدها فيكون موظفًا، لكنه لا يتجاوز عالم صغار الموظفين كما هو الحال في« الوزير جاى»، ١٩٨٦. صابر أفندى أيوب، وللاسم رمزيته الفجة المباشرة غير المبررة، واحد من بؤساء الموظفين المتقاعدين أصحاب المعاشات الهزيلة، وفى رحلة سعيه لاستعادة حق ضائع في دهاليز البيروقراطية العتيقة، يتشكل جانب مهم من أحداث الفيلم الحافل بالسخرية اللاذعة من أمراض شتى متداخلة متشابكة متكاملة: النفاق والروتين والتفنن في تعقيد الحياة وتعكير صفوها.
تتسع مساحة الدور نسبيًا فتظهر موهبة الممثل المتمكن، ويموت في بساطة وهدوء بعد الاقتراب من الوقوف على بوابة تحقيق الحلم الصغير وزيادة جنيهات قليلة تُضاف إلى معاشه الهزيل.
«النُص»، النشال البارع المرح صديق طالب الثأر والانتقام جابر في «دائرة الانتقام»، ١٩٧٦، أهم الأدوار السينمائية في مسيرة عبدالسلام محمد. كم هو مقنع صادق التعبير عن شخصية اللص الشعبى الظريف الطيب الشهم، الجدير بالحب والثقة دون ضغينة أو كراهية. يتوافق الرجل «الكادح» في سلاسة ورضا مع مهنته التى ينفر منها الأخلاقيون الشرفاء، وكم في هؤلاء من أوغاد يحترفون السرقات الثقيلة ويخفون حقيقتهم خلف أقنعة المناصب الرفيعة البراقة والثياب الأنيقة والوجاهة الاجتماعية المزيفة.
لا يخفي «النُص» مهنته ولا يخجل منها، ومن فرط براعة عبدالسلام وصدقه وعفويته، يندفع المشاهد المحايد إلى الإعجاب الذى لا متسع فيه للنفور والإدانة الأخلاقية الزاعقة. البطولة في شخصيته للشهامة والوفاء و«الجدعنة»، وعلاقته مع جابر نموذج للصداقة المثالية كما ينبغى أن تكون، أما حياته الزوجية مع امرأة تفوقه طولًا وعرضًا، وتتمتع بأنوثة طاغية وجمال مثير لافت، فإنها تثير الابتسام لما فيها من مفارقة، ويتحول الأمر إلى قهقهة حافلة بالبهجة والنشوة مع كلمات «النُص»، وهو يصفها متفاصحًا بأنها « يُنبوع حنان»!.
وجهه مبتسم دائمًا تعبيرًا عن الرضا، وحبه لصديق السجن، المظلوم مثله، يخلو من الشوائب والعكارات. وعيه الطبقى لا ينتسب إلى عالم المثقفين النظريين المتحذلقين، ذلك أنه وليد التجارب والخبرات والصراع الذى لا يتوقف في غابة الحياة. لا يملك المشاهد إلا أن يحب «النُص» ويتفهم دوافع احترافه للمهنة «غير الشريفة»، تمامًا مثل تعاطفه مع الفلاح البائس مدقع الفقر الذى يسرق «كوز الذرة»، لأنه لا يجد ما يأكله.
في «الحرام»، ١٩٦٥، يتفوق عبدالسلام في تقديم شخصية دميان، المجذوب الساذج الذى لايخلو من الخبث والدهاء، وبه تكتمل اللوحة الشاملة المقدمة عن واقع الحياة القروية المصرية قبل ثورة يوليو ١٩٥٢. دور محدود المشاهد، وأسلوب تقديم هذا النمط من الشخصيات في السينما المصرية يعتمد على المبالغة والإسراف في الأداء الكاريكاتورى، لكن عبدالسلام محمد يبدو تلقائيًا لا تطرف فيه، كأنه يبرهن عمليًا على أن هؤلاء ليسوا إلا جزءًا من نسيج الحياة اليومية المصرية. في «العملاق»، ١٩٨٥، يتحول الاضطراب النفسى العقلى إلى مرض عضوى خطير يشل الجسد ويحول دون القدرة على الكلام والحركة. الشيخ المريض الفقير يحظى برعاية فائقة من زوجة ابنه وحفيدته، بعد سجن ابنه الوحيد، ويعيش معهما كأنه الميت الحى. في دور كهذا، يظهر معدن الممثل وتُختبر قدراته الحقيقية. يعبر عن حالته غير التقليدية بنظرات العينين المجهدتين وارتعاشة الشفتين وتقلصات الوجه المحطم بضربات السنين ومعاول الفقر المزمن. بأدواته هذه، يفرض عبدالسلام حضوره وسطوته، وما الاحتياج إلى الكلام عند من يمتلك موهبة التعبير بالصمت؟
قرب نهاية الرحلة مع الحياة والسينما معًا، يبدع الفنان الكبير في مشهد لا يُنسى في «حنفى الأبهه»، ١٩٩٠. المواجهة الصدامية مع الابن، عادل إمام، تصل إلى ذروة التوتر العنيف الذي ينبىء باقتراب الاعتداء على الشيخ المريض العجوز، المتشبث بالحفاظ على الشرف ومبادئ الأمانة والرزق الحلال. لا شىء يتسلح به في المعركة المتوقعة غير المتكافئة، على صعيد القوة الجسدية، إلا نظرات العينين، يعبر بها عن مزيج من الدهشة والاستنكار والاستغاثة والحسرة والوجع. ينتصر ويتراجع الشيطان الذى يسكن الابن المأزوم، فكيف يتمكن الممثل العملاق من تحويل الضعف والوهن إلى شجاعة استثنائية؟ في الإجابة يكمن سر عبدالسلام محمد، الذى لا تفيد السينما المصرية من موهبته إلا قليلًا.


هتاف الصامتين
قبل عامين من وصوله إلى عامه الستين، يغادر عبدالسلام في هدوء وبساطة. عندئذ يتذكر عشاق المسرح القدامى أدواره البديعة في الستينيات، ومن ينسى «الفرافير» و«سكة السلامة»؟، أما المحصول السينمائى فيبدو محدودًا على الصعيدين الكمى والكيفى.