السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

وصايا أصحاب «نوبل».. نادين جورديمير 2

نادين جورديمير
نادين جورديمير
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ بدء منحها للمرة الأولى في عام 1901 بلغ عدد الفائزين بجوائز نوبل للآداب 113 كاتبا وكاتبة، ومنذ إعلانها وهى تحمل الكثير من التناقضات، بدأت من مؤسسها ألفريد نوبل الذى اقترن اسمه وثروته بالمتفجرات والاختراعات المرتبطة بفن الحرب، ومرورا ببرتراند راسل ووينستون تشرشل، اللذين حصلا على الجائزة، الأول في عام 1950 والثانى في عام 1953، وإن كانت شهرتهما الأوسع تعود إلى مساهمتهما خارج نطاق الأدب.
فالأول فيلسوف كبير وله إسهاماته المتعددة والجديرة بالتقدير لكنها لا تنتمى إلى صنف الأدب محل اهتمام الجائزة، والثانى كما هو معروف رئيس وزراء بريطانيا في خمسينيات القرن الماضي، لكنه حصل على الجائزة عن خطاباته السياسية، وهى الأخرى تخرج عن نطاق الجائزة، وحدث أن منعت السلطات السوفيتية بوريس باسترناك من تسلم الجائزة في عام 1958. 
كما رفض مارلون براندو جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم (الأب الروحي) احتجاجا على تشويه الأمريكيين للهنود الحمر، رفض جان بول سارتر الجائزة التى كانت لجنة نوبل قد قررت منحه إياها احتجاجا على الحرب الأمريكية في فيتنام.
كما رفض تولستوى كل الترشيحات التى أتت بعد عام ١٩٠١ حينما تجاوزته اللجنة في الترشح لها في ذلك العام، وكذلك برنارد شو الذى اعتذر أيضا عن قبول الجائزة لأنها تأخرت عن موعدها.
لم يكن تولستوى وحده الذى تجاوزته اللجنة ولم ترشحه لنيلها، بل كان هناك أيضا إميل زولا، وهنرى جيمس، وفيرجينيا وولف، وهنرك إبسن، ودبليو إتش أودين، وجراهام جرين، وفلاديمير نابوكوف، وإيتالو كالفينو، وآرثر ميلر، وبول فاليري، وآنا أخماتوفا، وفيليب روث، وآخرون، ودائما ما كانت اللجنة تؤكد في كل مرة على أن للخيارات ما يبررها.
تناقض آخر تمثل في منح الجائزة لجونتر جراس في عام ١٩٩٩ حيث ألقى محاضرة-وهو الذى أمضى حياته المهنية ممثلا لضمير أمته- عند تسلمه الجائزة أثارت جدلا وجلبة عظيمة ونقاشا واسعا، حيث كشف فيها عن أنه أمضى خدمته العسكرية في الشهور القليلة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية في قوات العاصفة (النازية).
وفى تقليد يتبع منذ أن تم الإعلان عن الجائزة يحدث أن يلقى الفائز كلمة أو خطابا يحمل نكهة كتاباته وفكره، وعمقا أخلاقيا يبرز نزاهة فكرية وإنسانية.
ومع اقتراب موعد إعلان جوائز نوبل، والذى يكون في أكتوبر من كل عام، ويتسلمها الفائزون بها في شهر ديسمبر ننشر خطابات عدد من الكتاب الذين حصلوا عليها، تلك الخطابات التى نقلها للعربية عبدالإله الملاح تحت عنوان (محاضرات نوبل).
وكما يقول عبد الإله الملاح مترجم الكتاب: ولئن كانت محاضرات نوبل للآداب مهرجانا من المخيلة الشعرية وفن اللغة فإن السياسى يلازم الانشغال بالجمالى خطوة بخطوة.
والكتاب على درجة كبيرة من الأهمية، نظرا لما يحتويه من خطابات لأبرز الشخصيات الأدبية العالمية وما لهذه الخطابات من قدرة غير عادية على توصيف معاناة العالم وعذابات البشرية التى تتمثل في الحروب العسكرية والاقتصادية وأحلام الدول الكبرى في الهيمنة والسطو على الثروات والثقافات وانتشار الفقر والمجاعات والضحايا.
إن هذه الخطابات لم تأت أبدا لتكون مجرد كلمة في طقس احتفالى يشهده العالم بمناسبة حصول كاتب من هنا أو هناك على أرفع جائزة أدبية على وجه الأرض، ولكن هى مختصر مفيد لكل ما ينشده الكتاب والأدباء في رواياتهم وقصصهم وأشعارهم وهى بمثابة ناقوس أو صرخة أو نداء بضرورة النظر إلى هذه العذابات والعمل على تخليص البشر منها لينعم الإنسان بحياة في عالم خال من المآسي.
وفى الحلقة الأولى نشرنا خطاب الكاتب الكبير الراحل نجيب محفوظ، الذى كتبه بمناسبة حصوله على الجائزة، وننشر اليوم خطاب كاتبة من جنوب أفريقيا قضت حياتها في مواجهة الفصل العنصري، مستقصية في أعمالها التوترات الأخلاقية والنفسية الناجمة عن التمييز في بلدها.
وحصلت نادين جورديمير على جائزة نوبل عام ١٩٩١ وقد وصفت بأنها كانت «بكتاباتها الملحمية ذات فائدة عظيمة للإنسانية». تمحور خطاب نادين جورديمير حول الكاتب وأسئلة الكتابة والوجود، ولطول الخطاب اخترنا منه بعض الأجزاء وإلى النص:
في البدء كانت الكلمة. وكانت الكلمة مع الله، وهى كلمة الله، الكلمة التى كانت الخلق. إلا أن الكلمة اتخذت على مر القرون من الثقافة الإنسانية معانى أخرى دنيوية ودينية أيضا. وقد غدت الكلمة مرادفة للسلطة المطلقة والمكانة والرهبة، كما تعنى أحيانا الاعتقاد الخطر، وبرنامجا في أحسن وقت للمشاهدة، أو برنامج حوار عبر التلفاز، وأن يتمتع المرء بالبلاغة أو سلاسة الحديث والتكلم بعدة ألسن وتحلق الكلمة في الفضاء وتقفز من الأقمار الصناعية، وهى أقرب من أى وقت مضى إلى السماء التى يعتقد المؤمنون أنها مصدر الكلمة.
لكن أهم تحول طرأ عليها كان ما حدث منذ زمن بعيد، لى ولأفراد الجنس البشري، حين تم حفر أول الحروف على لوح حجرى أو كتب على ورق البردي، وتجسدت ماديا من صوت إلى رسم منظور، وانتقلت من المسموع إلى المقروء بوصفها سلسلة من العلاقات التى صارت نصا، ثم سافرت عبر الزمن وانتقلت من ورق الرق إلى مطبعة جوتنبورج تلكم هى قصة التكوين للكاتب. إنها القصة التى جعلته أو جعلتها تتحقق وجوديا في الكتابة.
وكانت تلك، ويا للغرابة. عملية مزدوجة، تنشئ في نفس الوقت كلا من الكاتب والغرض من الكتابة بوصفه تحولا مهما وأساسيا في قوة الثقافة الإنسانية. وكانت تطورات الكائن الفرد بوصفها أصل وجود الفرد وتطوره، وتكييف طبيعة ذلك الفرد، تحديدا لاستكشاف أصل الكائن الفرد وتطوره، ذلك أننا نحن الكتاب قد نشأنا لتلك المهمة، شأننا شأن السجناء المحبوسين مع النمر في قصة بورخيس «كتاب الله»، الذى كان يحاول في شعاع ضوء لا يظهر إلا مرة في اليوم قراءة معنى الوجود برسم علامة على فروة ذلك المخلوق، وإننا ننفق حياتنا محاولين عبر الكلمة تفسير القراءات التى نقوم بها في المجتمعات، ذلك العالم الذى نحن جزء منه وبهذا المعنى فإن هذه المشاركة المعقدة التى تستعصى على الفهم تلك الكتابة التى هى دائما وفى الوقت ذاته استكشاف للذات والعالم، وللفرد والوجود الجمعي.
لقد أراد البشر، وهم الحيوانات الوحيدة التى يشغلها احترام الذات، مباركين أم ملعونين بهذه القدرة السامية المعذبة، دوما معرفة السبب في ذلك. وليس هذا مجرد السؤال الوجودى الكبير الذى ينشد معرفة سبب وجودنا هنا أصلا، الذى حاولت الديانات والفلسفات تقديم إجابة له قاطعة مانعة على مر الزمان ويحاول العلم تجريبيا أن يأتى بأجزاء مذهلة من التفسير، مثل إننا سوف نموت جميعا في الألفية التى فيها نعش، مثلما كان حال الديناصورات دون أن نكون قد تمكنا من تطوير الفهم اللازم للإدراك كليا.
ونظرا لأن البشر يهتمون بمصلحتهم الشخصية، فقد راحوا ينشدون في الوقت ذاته الوصول إلى تفسيرات للظاهرات المشتركة واليابسة والبحر، والريح والنجوم، والشمس والقمر، والوفرة والكارثة. ومع الأسطورة بدأ أسلاف الكاتب، رواة الحكايات، يتحسسون ويصيغون هذه الأسرار، مستخدمين في ذلك عوامل في حياتنا اليومية.. الواقع الملحوظ، وقوة الخيال- والقدرة على كشف المستور- لصنع القصص.
ولقد تساءل رولاند بارثيس: ما هى سمات الأسطورة؟ وأجاب: إنها نقل المعنى إلى الشكل. فالأساطير قصص تتوسط على النحو بين المعلوم والمجهول. ويعرف كلود ليفى شتراوس الأسطورة بحصافة على نحو ينزع عنها سمتها الخرافية فيقول: إنها جنس يقع بين القصص الغرائبية والقصة البوليسية. ولما كنا هنا في عالم الواقع فإننا لن نعلم من هو المجرم. ولكن ثمة أمرا يبعث على الرضا يمكن ابتكاره، وإن لم يكن فيه الحل. فقد كانت الأسطورة ألغازا مضافا إليها خيال جامح (فانتازيا) – حيث هناك آلهة وحيوانات وطيور، لها صفات بشرية، وأوهام وخيالات واجتماع أوهام في الخاطر والبصر- تخرج جميعا من المخيلة شكلا من تفسير اللغز. كان الشر وإخوتهم من المخلوقات مادة القصة، ولكن كما كتب نيكوس كازانتزاكيس ذات مرة ليس الفن تصويرا للجسد، وإنما للقوى التى أبدعت الجسد.
هناك تفسيرات عديدة مثبتة للظواهر الطبيعية الآن؟ وهناك أسئلة جديدة عن الوجود ناشئة عن بعض الإجابات. لهذا السبب لم يهجر جنس الأسطورة تماما، وإن كنا نجنح للاعتقاد بأنه قديم، فإذا خبا هذا الجنس ليغدو قصصا تروى للأطفال في أسرتهم قبل النوم، فإنه ما يزال في بعض أجزاء العالم مصونا بغابات أو صحارى من الثقافة العالمية الضخمة، استمرت نابضة بالحياة، تعرض الفن بوصفه نظاما يتوسط بين الفرد والوجود.
وبعودة عاصفة من الفضاء الخارجى قام إيكاروس مجسدا بالرجل الوطواط وأضرابه الذين لا يسقطون أبدا في محيط الفشل في التعامل مع قوى جاذبية الحياة، بيد أن هذه الأساطير الجديدة لا تنشد التنوير وعرض بعض الإجابات بقدر ما تسعى إلى صرف الانتباه عن الهموم التى تشغل النفس، لتوفر مهربا خياليا لأناس ما عادوا يريدون مواجهة مخاطر الإجابات على وجودهم الذى يبعث الذعر في نفوسهم؟ (وربما كانت المعرفة المؤكدة بأن البشر بهذه الطريقة قد أصبحوا هم أنفسهم آلهة، متروكا لهم ويا للهول، أمر وجودهم، ما جعل الكتب المصورة والأفلام الخرافية تكتسب صفة الهروب من الواقع). إن قوى الوجود ما زالت باقية. وهى ما يشغل الكاتب، لأنه متميز عن مبتكرى الأسطورة الشعبية المعاصرين، ولا يزال يعمل اليوم كما حاولت الأسطورة أن تفعل في شكلها القديم.
فهم الوجود بالفن
أليس هناك سبيل لبلوغ فهم الوجود سوى الفن؟ فالكتاب أنفسهم يحللون ما يفعلونه، فالتحليل يعنى أن ننظر إلى الأسفل بينما نعبر واديا على جبل مشدود، وقول ذلك لا يعنى تعمية عملية الكتابة، إنما رسم صورة لذلك التركيز الداخلى الشديد الذى على الكاتب أن يملكه لكى يختار فجوات الصدفة ويجعلها على فجوات الكلمة، كما يقوم المستكشف بتثبيت العلم في الأرض التى يستكشفها. «الدافع الوحيد إلى البهجة عند ييتس في رحلة الطيار الوحيد و«جماله الوحيد» من ارتفاع الكتلة، معارضة ومجتمعة، عبارة إي. إم فوستر المتواضعة «مجرد اتصال، والاختيار الخبيث لجويس صمت ودهاء ونفي»، ومتاهة جارسيا ماركيز حيث السلطة على الآخرين في شخص سيمون بوليفار تؤدى إلى عبودية السلطة الوحيدة التى لا تؤخذ من جانب، الموت– تلكم هى بعض الأمثلة على طرق الكاتب ذات التنوع الذى لا ينتهى في تناول حالة الوجود عبر الكلمة وإن أى كاتب ذات شأن ليأمل أن يضطلع بدور مصباح جيب صغير– ونادرا، شعلة مفاجئة بتأثير من العبقرية– في متاهة التجربة الإنسانية، تجربة الوجود.
قدم أنتونى بورخيس ذات مرة تعريفًا مختصرا للأدب، فقال: إنه «استكشاف العالم جماليًا» وأنا أقول: إن الكتابة إنما تبدأ من هناك، لأن استقصاء الكثير بعد ذلك لا يمكن إلا للوسائل الجمالية أن تعبر عنه.
البدايات
كيف يغدو الكاتب كاتبًا، بعدما أعطى الكلمة؟ لست أدرى أن لبداياتى أى وقع خاص يستثير الاهتمام، لكن لا شك أن لتلك البدايات كثيرا من القواسم المشتركة وبدايات الآخرين، وقد جرى وصفها على وجه الإفاضة من قبل نتيجة هذا الجمع السنوى، الذى يقف أمامه أحد الكتاب وسلف لى القول: إنه ليس ثمة كتابة تتصل بالوقائع مما أكتب أو أقول تضارع في صدقها القصص التى أكتبها، فالحياة والآراء ليسا هما العمل لأنهما واقعتان في التوتر بين الوقوف جانبا والانهماك فيما تقوم المخيلة بتغيير الإثنين.
واسمحوا لى ههنا أن أعرض لكم شيئا عن نفسي، أعتقد أننى يمكن أن أكون ما يدعى كاتبا بالطبيعة، فلم أتخذ قرارا بأن أكون كذلك. ولا كنت قد توقعت في البداية أن أكسب قوتى من قراءة الناس لما أكتبه، فقد كتبت وأنا ما زلت طفلة لمتعة الحياة بوساطة الحواس- وشكل الأشياء ورائحتها وملمسها ثم سريعا بدافع من العواطف التى أثارت حيرتى أو راحت تضرم في أعماقى وصار لها شكل فوجدت بعض الاستنارة والعزاء والسلوى والبهجة تتشكل في الكلمة المكتوبة».
إن السؤال: لمن نكتب؟ مصدر إزعاج للكاتب، مثل علبة صفيح معلقة بذيل كل عمل ينشره. إذ إنه يجعل مبدئيا من استنتاج الانحياز.. إطراء أو تشويها للسمعة. وجدير بالإشارة أن «كامو» كان أفضل من تناول هذه القضية. فقد قال: إنه كان معجبا بالأفراد الذين ينحازون أكثر من الأعمال الأدبية المنحازة. «فالمرء إما أن يخدم الإنسان كليا وإما لا يخدمه على الإطلاق. وإذا ما احتاج الإنسان، خبزا وعدالة، وإذا كان القيام بذلك واجبا فلا بد من تلبية هذه الحاجة، لكن الإنسان يحتاج إلى الجمال الخالص الذى هو خبز قلبه». ولذلك دعا «كامو» الإنسان إلى الأخذ بالشجاعة وبذل موهبته في عمله. وقد جدد «ماركيز» تعريف الأدب القصصى بدقة على هذا النحو: إن أفضل طريقة يمكن للكاتب فيها أن يخدم ثورة ما إنما هى الكتابة، وإتقانها. 
لطالما عانى الكتاب على مدى العصور الحديثة منذ عصر التنوير الإذلال وحظر النشر، بل والنفى أيضا لأسباب غير سياسية. فقد جُر «فلوبير» إلى المحكمة بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة، بسبب روايته «مدام بوفاري»، وحوكم «ستريندبرج» بدعوى الكفر، بسبب مسرحيته «زواج»، ومُنع تداول لورنس «عشيق ليدى تشارتلي».
إن الكاتب يُفيد البشرية بقدر ما يستخدم الكلمة ولو ضد ولاءاته أو ولاءاتها، ويثق بالوضع الوجودي، كما يتكشف ليمسك موقعا ما في عقدة الأجسام الشريطية التى تتكون منها الحقيقة، وهى الكلمة النهائية للكلمات التى لا تتغير ولا تتبدل لا بجهودنا المتعثرة لبيانها وتدوينها، ولا بالكذب، ولا بالحذلقة اللغوية والعصبية، ولا بالتعصب أو الهيمنة، ولا بتمجيد الدمار، ولا باللعنات ولا بأغانى الإطراء والمديح.