الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التبعية والغيرية في حديث عيسى بن هشام «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد أدرك معظم مفكرى القرن التاسع عشر – كما أشرنا سلفًا - فى الثقافة العربية ذلك السياج الخفى والعقد المسكوت عنه الذى يجمع بين السياسة والاقتصاد والإعلام من جهة وثقافة العقل الجمعى والانتماء والولاء من جهة أخرى، فقد اجتهد المستشرقون الأوروبيون المتعصبون لحضارتهم أن السبيل لإجهاض أى نهضة فى الشرق هو الغزو الفكرى قبل الاحتلال العسكري، لذا نجد بعض غلاتهم يهول ويبالغ فى تمجيد الفكر الغربى وفلسفاته وأدبائه وعلمائه ويهون ويبخس - فى الوقت نفسه - من حضارة الشرق التليدة ودورها فى بناء الفكر الإنساني. الأمر الذى دفع رفاعة الطهطاوى ومحمد عياد الطنطاوى وبطرس البستانى ونصيف اليازجى وأحمد فارس الشدياق وعبدالله فكرى - وغيرهم من الذين اتصلوا اتصالاً مباشرًا بالمدنية الغربية أو تتلمذوا فى مدارس إرسالياتها - إلى تنبيه العقل الجمعى إلى المفهوم الحقيقى لمصطلح الغيرية، مؤكدين على أن هناك بونًا شاسعًا يميز بين الحضارة المدنية الأوروبية الحديثة والثقافة الشرقية التليدة وما تحويه من أصول ومبادئ وقيم وعلوم وفلسفة قد شكلت جميعها مشخصات العقل الجمعى العربى وأن العلاقة بين هذين الطرفين ليست علاقة عدائية أو انفصالية بل إن كليهما يمثل حلقات تطور الفكر الإنسانى ذلك الذى خضع للسنة الكونية التى تكشف عن تأثير السابق على اللاحق وتتلمذ علماء وفلاسفة الغرب المحدثين على ما أنتجته عقول أساطين الثقافة الشرقية والحضارة الإسلامية فى مجدها الغابر.
فالغيرية التى طالما أكد عليها معظم قادة الفكر فى الثقافة العربية هى أعمال التفكير الناقد واتخذ منه منهجًا للاتصال والانتحال والمتابعة، وذلك لأن النقد يمكن الناقد من تقييم ما يبتضعه من الآخر ولا ينتقى الا الصالح والمناسب له وقد حرص محمد المويلحى على اقتفاء أثر قادة الرأى السابقين عليه ولاسيما مدرسة الإمام محمد عبده فبدأ بنقد الأنا والكشف عن مواطن الجمود والتخلف فى ثقافتنا وكان حريصًا خلال ذلك على عدم الإساءة للمنابت أو المبادئ أو مشخصات الهوية ووصف مظاهر الانحطاط التى أقعدت الفكر المصرى بخاصة والثقافة العربية بعامة عن النهوض بأنها أعراض لأمراض إذا أهملت أصابت وإذا عولجت برءت واستردت عافيتها إيمانًا منه بأن التيئيس والتشكيك فى القدرة على اجتياز الأزمات من أخطر الأسلحة فتكًا بالأمم المتطلعة للنهوض وعلى الجانب الآخر راح يحذر من التبعية والاستسلام والتنازل عن الهوية واحتقار المشخصات ونقض الثوابت ووضح أن خطر ذلك لا يقل عن سابقه: فالغيرية الإيجابية لا توجد إلا بين طرفين (الأنا والآخر). والآخر بطبيعة الحال لا يعترف بالضعيف الذى لا يجيد ولا يمتلك لغة الحوار وآلياته. وها هو محمد المويلحى يقول على لسان عيسى بن هشام «إننا فى حاجة لانقلاب أو ثورة على الإجماع أو الرأى السائد فى ثقافتنا العربية الشرقية التى تعلى من شأن الأجانب وترفع من قدر الخواجات ولا تلوم فى الوقت نفسه على الشرقيين جمودهم وقعودهم عن الاجتهاد وانصرافهم عن تحصيل العلم وتعلقهم بالغريب والجانح وغير المعقول من كتب الأقدمين. كما راق لبعضهم السير وفق رذيلة الاستسلام أمام قوة الأغيار (فيقولون فنسمع ويأمرون فنصدع ويقتسمون أرزاقنا فنشكر وينقصون من أرضنا فنحمد ويحتلون ديارنا فنقبل أفلا أقل أن نسهب فى بيان الأسباب التى ارتقت بهم إلى مرتبتهم فى الوجود ونطنب فى شرح القواعد والأصول التى أسسوا عليها بنيانهم لنحذوا حذوهم ونعمل على شاكلتهم أو ليس الأليق بنا أن نحرض قومنا لينفضوا عنهم غبار الكسل ويخلعوا عنهم لباس الخمول ويهبوا إلى محاكاة هؤلاء المجتهدين فى أنوع الكمالات.
ومن هنا جاءت دعوة المويلحى لعلم الاستغراب، ويقول على لسان أحد الأصدقاء المرافق للبطلين (عيسى وأحمد باشا) فى رحلتهما إلى باريس: «هؤلاء الفرنسيون خصوصًا لا نتصفح لهم كتابًا ولا نسمع منهم حديثًا الا بتمجيد مدنيتهم، ومباهاة الناس بنظام معيشتهم، وأنهم هم أرباب الخلق وسادة البشر، وأن الهدى هداهم، والضلال فيمن عداهم، وأنه أوحى إليهم من سماء مدنيتهم أن يخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فأما الإيمان بها وإما الحسام، وقد ذاعت فينا دعوتهم، وأعانهم نفرًا منا على نشرها، فقبلنا مبالغاتهم بالتصديق والتسليم من غير بحث ولا نظر، وصرفنا كل ما يأتونه إلى وجوه الحكمة والصواب، وبسطنا لهم صحيفة الاستحسان من النفس، يرتسم فيها كل ما يتخيلونه ويموهون به علينا.
فالرأى لنا حينئذ أن نطرح عنا ما قالوا وما وصفوا، وننظر اليوم إلى الأمور فى حقائقها، ونحكم عليها بحسب قيمتها فى ذاتها لا على حسب ما رسمه الوهم وسوله الخيال فى نفوسنا» وهذا هو علم الاستغراب. 
ويمكننا أن نستنبط من حديث محمد المويلحى السابق - حيال قضية الشرق والغرب وموقفنا من الأغيار - ثلاثة أمور: أولها: دعوته لإنشاء مراكز بحثية لدراسة الثقافة الغربية وسمات مدنيتها والوقوف على إيجابيتها وسلبيتها (علم الاستغراب مقابل علم الاستشراق).
وثانيها: لفت أنظار الباحثين إلى خطورة الدعاية الغربية التى تروج للثقافة التى ابتدعها فلاسفتهم والمستشرقون ودعاة العولمة. 
وثالثها: الكشف المبكر عن المغربين فى الثقافة العربية وهم الذين جحدوا مشخصاتهم وكفروا بأصولهم وراحوا يروجون للفكر الغربى ويدعون للفناء فيه باعتباره المخلص الأوحد من الجهل والتخلف، ولعله كان يقصد فى هذه الحقبة فرح أنطون وشبلى شميل ومن نحا نحوهم. 
ويجتهد المويلحى فى توضيح كيفية الحث على الانضواء تحت راية العلم الأوروبى الحديث مع الاحتفاظ بالمنحى النقدى الانتقائى عند تطبيق الفلسفة الغيرية، فيرى أن التتلمذ على الغربيين وانتحال مناهجهم دون مذاهبهم هو الهدف المرجو، وذلك بعد فحص تام للنظريات والفلسفات والنظم والعوائد الغربية قبل قبولها وإدراجها ضمن الثقافة الوافدة. ويؤكد أن مثل ذلك الصنيع يحتاج إلى عقلية ناقدة واعية، لا تبهرها أضواء الغرب والمشاهدات الطريفة والغريبة هناك ولا تتخذ موقفًا عدائيًا مسبقًا من تلك الثقافة. 
وللحديث بقية..