الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مبتور الساقين.. مات واقفًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هو أحد كبيرين تأثرت بهما فى بواكير حياتى السياسية. الأول كان جمال عبد الناصر الذى أوقعنى طفلا فى شباك عشقه مطلع خمسينيات القرن الماضي، والثانى بسام الشكعة (أبو نضال) حين تعلقت بحبال حبه المعاش يوميًا منذ عام ١٩٥٧، وهو المختفى لدى منزل والدته غالبًا، ويكاد يكون يوميًا ولساعات فى منزل والديّ، والذى كان ملاصقًا لبيت والدته، حيث تفصل المنزلين نافذة واسعة من «الزجاج المبزّر»!
واليوم، فى «ذكرى أربعينه»، أسجل: لطالما وجدت أبا نضال من طينة «الإنسان فوق العادي». صحيح أنه ولد وفى فمه ملعقة من ذهب، لكنه توزعها، وما فيها، مع الكادحين. وسرعان ما أصبح فى طليعة الشخصيات الوطنية الفلسطينية التى تحظى باحترام كبير فى الشارعين العربى والفلسطيني، ولطالما مضى «بسام» ساعيًا مع الساعين لإنجاز إيمانه بالوحدة العربية الشاملة، مستهدفًا تحرير فلسطين وبناء عالم من الحرية والاشتراكية على امتداد أرض العرب. وفى مسيرته هذه، دفع بسام الشكعة ما توجّب دفعه ثمنًا لهذا الإيمان، وذلك السعى سواء من حريته أو أمنه، حيث قضى شطرًا من حياته مختفيا أو سجينا أو لاجئًا منفيًا قبل أن يعود إلى مدينته، نابلس (جبل النار) التى ما فتئت تبادله الوفاء. وإلى آخر لحظات حياته، ظل النابلسيون وعموم الفلسطينيين يحجّون إلى منزله ويتباركون بطلّته، وأكاد أجزم أن مجرّد وجوده على قيد الحياة كان يبعث الاطمئنان ويبث السكينة فى الكثيرين، وينبئهم بأن هناك مقاتلين وطنيين من جيل العمالقة ما زالوا يحرسون قضيتهم ويذودون عنها.
وحين بسط الاحتلال الإسرائيلى فاشيته على ما تبقى من أرض فلسطين فى عدوان ١٩٦٧، وجد بسام نفسه وجهًا لوجه مع المحتل الذى كان يأمل - لسنوات مضت- أن يواجهه المواجهة الحاسمة بعد إنجاز بناء «الدولة العربية الواحدة». منذئذ، لم يضع «أبو نضال» ثانية واحدة خارج نطاق الكفاح، وصولا إلى خوض انتخابات البلدية عام ١٩٧٦؛ حيث ترأس «القائمة الوطنية» فى آخر انتخابات للبلديات الفلسطينية فى الأرض المحتلة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وفاز برئاسة بلدية نابلس، وشكل مع إخوانه رؤساء البلديات الأخرى (فهد القواسمة، محمد ملحم، إبراهيم الطويل، كريم خلف وآخرون) «لجنة التوجيه الوطني» التى قادت النضال ضد الاستيطان وممارسات المحتل الصهيوني، وطبعًا دون أن تطرح اللجنة نفسها بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية.
وكعادته، قاوم بسّام الدولة الصهيونية كشجرة زيتون فلسطينية متجذرة فى الأرض تواجه بأغصانها جبروت الاحتلال الإسرائيلى وغطرسته، متسلحًا بإرادة فولاذية. فمن موقعه كرئيس للبلدية، اصطدم بالحكام العسكريين، ورفض العديد من أوامرهم التى تتعارض مع مصلحة الوطن. وسرعان ما ضاق هؤلاء به وبرفاق له من طينته الزّكيّة بعد أن عملوا على تحدى الاحتلال وممارساته، ونسقوا مع الحركات الطلابية فى جامعات بير زيت والنجاح وبيت لحم، والنقابات المهنية والعمالية وغيرها من قوى المجتمع، الأمر الذى عزز من الالتفاف الشعبى حولهم. وقد نجح ذلك «الائتلاف الشعبي» فى إفشال قرار إبعاد بسام وعدد من رفاقه عن أرض فلسطين، كما لعب دورًا كبيرًا فى إفشال المخططات الإسرائيلية لما كان يطلق عليه «روابط القرى»، إضافة إلى دوره فى محاربة المخططات الاستيطانية من خلال تثبيت الناس فى أرضهم، وتشجيعهم على استصلاح مناطق الأغوار وغيرها، وفى إفشال خطة «ألون».
استمر الكفاح بقيادة أبى نضال، فقرر الاحتلال نسفه، وقد فعل! فقد أدى انفجار عبوة وضعت يوم ٢ يونيو ١٩٨٠ فى سيارته التى كان يستقلها مع اثنين من زملائه (هما رئيس بلدية رام الله كريم خلف آنذاك، ورئيس بلدية البيرة إبراهيم الطويل) إلى بتر ساقيه، كما بترت ساق خلف. وبعد التفجير، بقى لخمس سنين محاصرًا فى بيته وجنود الاحتلال يطوقون بيته ويمنعون زواره من التواصل معه، علاوة على المضايقات التى واجهها وأفراد أسرته. لكن بسام بقى صامدًا، مقاومًا ومدافعًا عن حقه وحق شعبه دون أن يضعف أو يتنازل أو يساوم، مطلِقًا عبارته الشهيرة: «الآن أصبحت أقرب للأرض»!
عجز الصهاينة عن «الارتفاع بجريمتهم» إلى ما فوق ركبتيه! وهكذا بقى من بسام الرأس المرفوع، والصدر المقاوم، والقلب الثابت، والعقل المدرك، واللسان الحاد، واليدان النظيفتان. ومنذئذ، لم تتوقف هذه الأسلحة المشهرة من تفاصيل جسده.. عن المقاومة بنصف جسد، وكأنه بعزيمة أمة! حقًا، كان بسام من جنس البشر الاستثنائى الذى يسير على قدمين ثم - فجأة- يصبح نسرًا يطير محلقًا، مرتقيًا من الثرى إلى الثريا! فمنذ اللحظة الأولى التى بترت فيها قوى الاحتلال ساقيه، خرج أبو نضال من دائرة «الإنسان فوق العادي» إلى عالم النسور التى لا تقهر! فاقترب فى سلوكه من أسطورة «طائر الفينيق» الذى يخرج من رماد الحريق أقوى وأشد إصرارًا، مدركًا حجم التحديات الكبيرة وثمن المقاومة الباهظ، فى صورة يستمد منها شعبه دروسًا فى التجدد، ورمزًا يتعلق به، وتميمة ترد عنه السوء.
وبالعبارات ذاتها التى خاطبتك بها فى حفل تكريمك الذى أقمناه فى «مؤسسة فلسطين الدولية» (بالأردن)، قبل ثلاث سنوات، أكرر: أخى العزيز: لأنك أنت من أنت، ولأنك تمثل ما تمثل، ولأنك ما فتئت تضيء ظلامنا.. وجدنا أنفسنا -بقوة إبداعك النضالي- نقتنع بأن للحياة جدوى. فأنت.. وأمثالك، هم من يجعلوننا نعلن بالفم الملآن: حقًا، على هذه الأرض ما يستحق الحياة.. والشهادة أيضًا! وستبقى يا صديقى الأثير، فى خاطرى دومًا، أحلق فى سمائك كل صبح ومساء، فخيالى أنت له فضاء بلا انتهاء، وسأبقى -إلى حين لقاء يجمعنا فى «الآخرة»- محتسيًا كئوس شوقٍ لك دون ارتواء!
• نقلًا عن «الاتحاد» الإماراتية