السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في أكاديمية جيل دولوز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
حينما كتب جيل دولوز نصه الشهير حول آلات الحرب برفقة رفيقه في الكتابة الفلسفية فيليكس غواطاري، لم يكن يتوقع مدى الزلازل التى يحدثها وهو يقابل البنية في الفكر البنيوى بالآلة التى هى بنية كل معناها وكل أهداف كينونتها موجودة خارجها، بحيث تنعدم البنية داخليا انعداما تاما. هذه الآلات كسرت شوكة البنيوية أكثر من أى شيء آخر فاتحة الباب للفكر ما بعد البنيوى ورديفه الفكر ما بعد الحداثي.. ما كان بصدد الحدوث هو الشك في ميراث البنيوية التى كانت مهيمنة، والتى درست الكائن الثقافى من خلال النظر إلى المنتج داخل الثقافة «دراسة محايثة؛ الآن وهنا» ورأت التاريخ ثابتًا على الصورة التى ارتضاها المهيمنون «المجتمع، والسلطة، المنتصرون على الفرديات، الغزاة.. إلخ»... ما كان يحدث ساعتها هو نشأة «أنثروبولوجيا سياسية» كبديل عن «الأنثروبولوجيا البنيوية». معرفة إنسانية تقدم الثقافة على اللوغوس، تنتصر للعواطف على الأفكار، بل تجعل كل فكرة مستحيلة بعيدًا عن دائرة الحس والوجدان كما يقول دولوز.
تنويعات
في أكاديمية دولوز ستجد جمهرة من الأعمال الفلسفية البارعة، ستختار عملًا مما سيروقك، عمل أدبي، نفساني، في السينما، السيميائيات، تاريخ الأدب، نقد الفلسفة الغربية، تعليقات على المحدثين والمعاصرين، كتب نظرية، دروس فلسفية بالمعنى الحرفى للكلمة، محاضرات ومقالات في السياسة.. لا أن واحدة من دراساته ستشد انتباهك، وسيكون فيها صدى جيد لما أو لمن تحب وللموضوعات التى تهتم بها كقارئ للفلسفة: سبينوزا، لايبنتز، نيتشه، فوكو، بيرجسون، كانط، هايديجير «هذان الأخيران يبدو أنه خاورهما جيدا في كتابه الاختلاف والتكرار تحديدا»... أولئك هم نقاط ارتكازه الكبرى. ولكم في النصوص حياة. 
هى أكاديمية تهتم بحساسية المعنى
يقترح جيل دولوز فكرة متميزة لفهم طريقة عمل سطوح الأشياء من خلال تطوير مفهوم الطيات أو الجيوب لدى سبينوزا؛ ففى كتابيه المبكرين «الاختلاف والتكرار» و«منطق المعنى» وصولا إلى كتابه الرئيسى «ألف طبق» المحرر برفقة شريكه العقلى الفيلسوف فيليكس جواطاري، يقترح دولوز رؤية خاصة تجعل المعنى شيئا آخر عدا الدلالة، بحيث تتضح هذه الأخيرة وتسير صوب التحديد والنهايات بقدر ما يتختفى المعنى ويتمنع ويسير صوب ابتكار وجوه عديدة وإمكانيات متحولة، بعضها في انتهاء وبعصها يتجدد– بتعبير أبى نواس-... ويقترح دولوز المعنى كبعد رابع إلى جانب التعيين (المحمولات المباشرة القاعدية) والتمظهر (الأبعاد الفيزيقية) والدلالة (تجارب الحس المشترك والمقصدية القبلية)... والمعنى عند دولوز بنية استنباطية، خاصة، مفارقة، سليلة الشعور الاستثنائي، وهذا سبب الجانب السرى للمعاني.
وإذا كان لا بد من الحيلة الإنسانية المناورة القديمة التى تقتضى إيجاد أريحية التواصل من خلال قول الأشياء المعقدة بشكل بسيط، فإن المعنى ليس تجربة فهم تحليلية تركيبية، إنما هو تجربة حساسية إزاء العالم. الحساسية بالمفهوم الفلسفى الدولوزى المعاصر الذى يجعلها معطى ترسبيا لوعينا بالعالم حسب فئات تقتضى فرضيات وأسئلة؛ فكل معنى هو حصيلة غير نسقية لا واضحة الانتظام لمجموع ما يمكننا أن نفكر فيه حول موضوع ما، وما يمكننا أن نطرحه من أسئلة، أجوبة، اعتراضات، مقترحات حول هذا الموضوع... وهذا ما يجعل دولوز يميل إلى فكرة أن الدلالات المجردة أيضا «كالمعنى الرياضي» يتم إنشاؤها في سياقات شديدة الملموسية.
في أكاديمية دولوز تتعلم مراجعة كل البديهيات، لا شيء يؤخذ في الأغلفة التى جاء فيها. لا بد من فك الأغلفة، تفكيك التراكيب، النظر في طريقة التركيب وطريقة الاستعمال، إخضاع الشيء للملاحظة المتشككة الفاحصة، ثم اقتراض فكرة الطيات التى اقترحها لايبنتز لفهم طبيعة تشكيل المفاهيم التى تسيرنا فيما نعتقد أننا نشكلها، الطية مفهوم أليف جدا في الفنون؛ ذلك النزوع الذى يجعلنا نطرح ألف مرة السؤال كيف / لماذا؟.. فكأن العالم مشكل من طيات بلا نهاية؛ قطعة قماش نظل نفك طياتها إلى آخر الزمان. 
تعلمك الرياضيات في أكاديمية دولوز ما تعلمه لايبنيز: التفكير بالطريقة الباروكية؛ إذ إن كل شيء يطوى ويتكشف ويتدحرج. المثال الأكثر جلاء في هذا الإطار هى «الروح» الموضوع المعروف المجهول الأكثر إصرارا على التجربة البشرية. البناء الجليل الذى يظل بلا باب أو لا نافذة، والذى يظل مع ذلك عصيًا على الولوج، ويكاد دولوز يذكر الآية «قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».. الروح هى الموضوع المتاح المتمنع بامتياز، نتعلم حولها سرودا كثيرة تتراكم عبر التاريخ وسط فيضان جارف من العجز عن التأكد من صحة السرود التى نتناقلها «وهل للسرود صحة خارج نفسها؟ هل للحقيقة السردية وجود بعيدا عن حساسية صاحب السرد؟»... وننسى أن نتعلم ما يجب من الشك ومن خلق مسافات الأمان بالنسبة إلى هذه الطريقة الميتافيزيقة في إتيان المعنى. أقول شيئا بلا سند وأكرره حتى أتعود على سماعه بفعل ترديد الصوت وترجيع الصدى، فيصبح الصوت دليلا ما قبله، حجة على ما بعده، ويصبح لاغيا لضرورة المراجعة العقلية. وذلك جوهر الميتافيزيقا؛ الدفاع الأعمى عما لا وجود له خارج النصوص والسرود التى نغفل عن العلم بمصادرها... 
يحقق دولوز النموذج ما بعد الحداثى بامتياز من خلال جعل كل مفهوم منوطا بمادة خام، يعمل عليها لإخراج أشكال وتحف تشكل تماثيل الفلسفة... لكى نأخذ هذا المثال العتيق الذى يجعل الفلسفة أشبه بالنحت فيما يكون الشعر بالمقابل شبيها بالرسم.. والجمال عند دولوز وليد الحركة لا الثبات كما علمتنا الفلسفة الكلاسيكية... ففعل النظر في الكون يصبح تأملا في طيات الكون. وإدراك جماليات الخلق يفضى إلى التنبه لأجل التقاط تلك العلاقات بين الواقع الفعلى والعالم الافتراضى للعقل... تصوراتنا حول الأشياء. 
يسأل السائل: أليس هذا الكلام أقرب إلى السياسة منه إلى علم الجمال؟
سيجيب دولوز بطريقته البارعة في تجنب الإجابات لأجل المهمة الفلسفية بامتياز التى هى بث الأسئلة في العالم، وجعل الأجوبة مواعيد لا وفاء لها بالزمن. 
الأسئلة هى التى ترجئ الحادثة فتتقدم بالزمن إلى الأمام. وهذا أيضا هدف من أهداف السياسة.
هل انعدمت إمكانية الحديث عن الجميل دون السقوط في السياسي؟ 
التفكير داخل أكاديمية دولوز يجعل من الممكن تصور حدوث إرادة في الطبيعة وفقًا للشروط التى يتم بموجبها اعتماد مفهوم «العامل» agent المركزى في فلسفته، والعامل رفيق وفىُّ للحركة التى هى البديل الحداثى «أو ما بعد الحداثي» للسكونية الطبيعية...أما المفاهيم في أكاديميتنا فهى التجلى الأمثل لفكرة الحرية، حرية الذات في الصياغة الصارمة للعالم.. ليصبح الجميل بهذا المعنى إمكانية للتمايز، في ظل هيمنة الهياكل والأشكال الحالية. (الاختلاف والتكرار. ص:267).
خلاصات
لقد بلغ الوعى ما بعد الحداثى المعاصر فكرة أنه لا شيء يخرج عن كونه «نصًا»؛ والنص يمكن فك تشفيره و«قراءته» من خلال استجواب المعرفة والتاريخ والفنون (كلها) واللغة والمعنى المشترك إنسانيا أو المختلف جغرافيا، والنظم الاجتماعية المختلفة وكذا الفلاسفة بمختلف آفاقهم.. في هذا المنظور، ما تم تجاهله والمسكوت عنه وكل ما يقبع في الهامش أصبح عوامل ذات تأثير؛ عوامل لا بد أن يتم فحصها. وحده المنظور الذى ينتمى إليه دولوز وربما بسبب انتماء دولوز إليه بالذات صار يعترف بالذاتية كمفهوم سائل أو متحرك، وصار يرى في السياقات معلومات، وفى القيم إمكانيات للحوار بين المتفاوتين.