السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في منتصف العمر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تمضى بنا الأيام وتنسحب من تحت أقدامنا السنون وتعصف بشراعنا الأمواج، وتصحو أحلامنا على صخرة عاتية، إنها صخرة منتصف الطريق لنرى من عثرات الماضى وإخفاقاته جبالا شاهقة وصادمة، تحطمنا أحيانا ونتجاوزها أحيانا، شريط حياتنا يطاردنا، هنا كان يجب أن نبطئ، وهنا كان يجب أن نسرع، وكلها خطى كتبت علينا، وعند منتصف العمر يبلغ الكمال منتهاه والعاقل من يجعلها بداية وانطلاقة لمسيرة جديدة حتى يبلغ العمر مبتغاه واثقا بالله بأن حصاد الحاضر غراس الماضى وغراس اليوم ثمار الغد، فلا تدع الفسيلة تزبل بين يديك.
منتصف العمر مرحلة عمرية ما بين الأربعين والخمسين تحدث فيها تغييرات جسمية توحى بتقدم العمر بسبب مظاهر الشيب وانخفاض القدرة الحركية والحسية، وتغيرات نفسية فى انفعالات وسلوك الشخص فيبدأ فى مراجعة حياته الماضية وكيف سارت به الأيام وكيف يمكن أن تكون عليه الحال فى المستقبل إضافة إلى الشعور بالفجوة بين ما كان يطمح إليه وما حققه فعلًا، ويحدد استبيان «ديناميات الأسر والدخل والعمل فى أستراليا» (HILDA) أن العمر الذى يشعر عنده الشخص بأدنى مستوى من الرضا يكون بين الفئة العمرية التى تتراوح ما بين ٤٥-٥٤ عاما باعتبارها الأكثر تدنّيًا. واعتقد المحلل النفسى إليوت جاك، الذى صاغ مصطلح «أزمة منتصف العمر» فى عام ١٩٦٥، أنه يعكس الإدراك الفادح بأن الموت يلوح فى الأفق، فى الوقت الذى يصل فيه المرء إلى ذروة الحياة. ووفقا لما قاله جاك، فإن الإنجاز الرئيسى لمرحلة منتصف العمر يتمثّل فى تجاوز مثاليات مرحلة الشباب والوصول إلى ما أسماه بمرحلة «الاستسلام البنّاء»، إذ تُصبح الشخصية أكثر نضجا واتزانا ولا تنشغل بتفاهات العمل وسخافات التفكير.
وقد تناول الشرع الحنيف تلك المرحلة من العمر حيث قال الله عز وجل فى قرآنه الكريم فى الآية (١٥) من سورة الأحقاف « حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِين» صدق الله العظيم
يقول الإمام القرطبى رحمه الله فى تفسير هذه الآية، ذكر الله عز وجل أن من بلغ أربعين فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه وعلى والديه ويشكرها، وقال مالك (أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا، ويخالطون الناس، حتى يأتى لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس) وقال عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه (أن من بلغ الأربعين ولم يجاوز خيره شره فليحذر فباطن الأرض خير له من ظاهرها. 
واختصاص سن الأربعين بالذكر فى هذه الآية الكريمة دليل على أنه سن تمام الرشد وكمال العقل واستواء الفهم، وما من تمام إلا ويعقبه انتقاص، فإذا بلغ الإنسان نهاية قوته البدنية والعقلية، وبلغ أربعين سنة دعا ربه قائلا: ربى ألهمنى أن أشكر نعمتك التى أنعمتها عليَّ وعلى والديَّ، واجعلنى أعمل صالحًا ترضاه، وأصلح لى فى ذريتي، إنى تبت إليك من ذنوبي، وإنى من الخاضعين لك بالطاعة والمستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
ويرى علماء النفس أن مرحلة منتصف العمر تعد أزمة قد يتجاوزها البعض وقد يسقط فيها البعض الآخر، والأمر على أحد محاور ثلاثة إما التحفيز والدافعية وتجاوز أخطاء الماضى والعبور إلى المستقبل بشعور من الرضا والقناعة بما أُنجز والسعى لتحقيق ما هو أفضل قدر ما أمكن، وثانيها الركون إلى مسلمات الواقع والشعور بالعجز والاستسلام للوم وجلد الذات فيركن الشخص إلى الأوهام وتعتريه مظاهر عدة ومنها، فقد الاهتمام بالأسرة، كثرة الحنين للماضي، اتخاذ قرارات عشوائية فيما يتعلق بالجانب المالى والمهني، الإحساس بالفشل والإحباط قد تصل إلى الشعور بالدونية والقهر فتعصف به الوساوس وتفتك به الأمراض وقد يصل الأمر إلى حد فقدان العقل وإزهاق النفس، أما الصورة الثالثة وهى العزوف عن الحياة هروبا إلى مظهرية التدين أو ما يعرف بظاهرة التدين المرضى حيث يركن الشخص إلى مظاهر التدين من لباس وأفعال دون الالتزام بجوهر الدين وأصل العبادات ونرى من ذلك كثيرا حول الأضرحة وفى ساحات الأولياء.
إن التنشئة الصالحة والتربية الحسنة هى الدعائم المُثلى لتجاوز تلك المرحلة البالغة الخطورة من مراحل العمر وذلك من خلال الدعائم العشر التالية 
- التنشئة الدينية السليمة فى مرحلتى الطفولة والشباب. 
- السعى نحو تحصيل تعليم جيد للأبناء قدر المستطاع.
- الاهتمام بالحوار بين الأبناء لتقوية الترابط العائلى وتوسيع قاعدة العلاقات الاجتماعية وتقوية الروابط الأسرية من خلال ود الصغير واحترام الكبير من الأهل والأقربين.
- التخطيط الجيد للمستقبل ورسم أهداف واضحة المعالم ومحددة السمات. 
- الموازنة بين الطموح والإمكانات لتحقيق المحدد من الأهداف وفق المتاح من الموارد. 
- اتخاذ القدوة والمثل دينيا وأخلاقيا وعلميا، مما يمثل دافعا وحافزا نحو النجاح. 
- أهمية التدريب على حل المشكلات واتخاذ القرارات، فبعض القرارات التى تتخذها سترفعك إلى السماء أو تهوى بك أعماق الأرض، الحياة قصيرة جدا فلا تطل التفكير والتقرير فيما لا يجعلك سعيدا على المدى الطويل. 
- الحياة ليست سباقا، لذا يجب أن تقرر ما يستحق التخلى عنه وما يستحق الكفاح من أجله، فالسعى لإدراك القيمة خير من السعى لتحقيق الثروة، فسعادة الإنسان فى قيمة ما يملك وليس فى مقدار ما يجمع. 
- توسيع دائرة الاهتمامات الوجدانية والروحية (الشعائر الدينية – الأنشطة الرياضة - العمل الاجتماعى والتطوعي) مما يؤدى إلى الشعور بالقناعة والطمأنينة والرضا.
- فهم المرحلة العمرية وما يصاحبها من تغيرات جسمية ونفسية، فكل مرحلة من مراحل العمر لها جمالها ووقارها.
وعلى أعتاب الخريف تصبح حياتنا مثل الورود فيها من الجمال ما يسعدنا ومن الأشواك ما يؤلمنا، العمر الحقيقى لا يقاس بمقدار تساقط أوراقه بل يقاس بمقدار تساقط أحلامنا، افتح عينيك على ذاتك وعلى كل ما حولك ستجد أبوابا مفتوحة وفرصا واعدة ولا تقع أسير لحظة بائسة ولا تطل الوقوف عند الأبواب المغلقة والطرق المؤصدة، إياكم والشعور بالحسرة والمرارة عن أيامنا الماضية، نعم من المحتمل أن نفشل ومن الوارد أن نتعثر لكن يقيننا بالله أن ما كان ليدركنا لم يكن ليخطئنا وأن حصادنا ما هو إلا نتاج ما زرعنا، ولنعلم أن سر سعادة المرء فى طمأنينة القلب وصفاء النفس وأن حدود الرزق لا تتوقف عند المال وفقط، فما أجمل الرزق فى سكينة الروح، ونور العقل، وسلامة الفكر وصحة الجسد، الرزق فى أم تدعو وأب يحمى، الرزق فى زوجة صالحة وصحبة طيبة وأبناء بررة وإخوة عضدا وسندا. 
نحن لا نشعر أننا نكبر بمرور الزمن، بل نكبر عندما يموت الحب فى قلوبنا وتموت البسمة فوق شفاهنا وبموت بريق الآمال بداخلنا، وفى منتصف العمر وعند تغير الفصول ودنو خريفها فلنتمسك بأغصانها الباقية، فلا زالت العصافير تغرد وتلامس الفراشات أوتار القلوب، فلتجعل لحياتك معنى يكتمل بعلمك وعملك وأسرتك وأحبائك وأصدقائك وفى وجود هؤلاء الذين يؤمنون بك ويشجعونك لأن تكمل المسيرة.