السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

سفاح مصر.. حفرة.. في مقابر الصدقة! "ملف"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«محمود» يختفى في مغارة بـ«صحراء حلوان».. والآلاف يتابعون المشهد
السفاح يطلب محادثة أحد الضباط: سأستمع للراديو قليلًا قبل أن أنهي حياتي
لم تكن الإسكندرية فقط، بل القاهرة ومصر كلها، التى أصيبت فى تلك الأيام بما يمكن أن يقال عليه.. «جنون السفاح»!
ربما لم يكن محمود أمين سليمان لصًا عاديًا، وربما كان لصًا خطيرًا ذكيًا، لكن الظروف وخيانة الأحباء والأصدقاء، هى التى حولته إلى مجرم خطير يبحث عن الانتقام.
أما الصحافة فهى التى ـ بالتأكيد ـ أشعلت نار حمى المطاردة والاهتمام. والصحافة أيضًا هى التى أطلقت عليه اللقب الذى لازمه حتى النهاية.. لقب السفاح!

كان السفاح محمود أمين سليمان قد وصل إلى المشهد الأخير فى حياته، وكان مشهدًا مأساويا مثيرا حقا. انتهت رحلة هروبه الطويلة من الإسكندرية إلى القاهرة، ومطاردة كل رجل شرطة فى مصر له، إلى اختفائه فى مغارة مظلمة فى صحراء حلوان.
وحاصر رجال الشرطة المغارة، وعندما حاول أحد الجنود، دخولها أطلق محمود عدة رصاصات جعلته يتراجع، كان وضعه ميئوسا منه.
فلا مخرج من المغارة، والشرطة تحاصرها من كل اتجاه، وفجأة ارتفع صوت محمود أمين سليمان من داخل المغارة، ينادى على الضابط فاروق عبدالوهاب، والذى كان قد سبق أن ألقى القبض عليه عدة مرات من قبل وتعامل معه.
صاح محمود من داخل المغارة: أنا عاوز الصاغ فاروق عبدالوهاب!
وكان الضابط موجودا ضمن القوات التى تحاصر المغارة.
- فتقدم وصاح: أنا قدامك أهو يا محمود.. عاوز إيه؟
قال محمود من مكانه داخل المغارة: أنا عارف إنك عاملتنى كرجل.. وأنا عايز أقول آخر كلمات لي.
سادت لحظات صمت.
وعاد السفاح ليقول: وحياة أبويا مش حأعمل حاجة.. تعالى حتى بطبنجتك!
- رد الضابط فاروق: عارف، لكن ارمى مسدسك وأنا جاى لك.
لم يرد السفاح.
ومرت دقائق بطيئة ثقيلة.
وفجأة أطلق رصاصة من داخل المغارة.
ورد رجال الشرطة بوابل من الرصاص.
ومرة أخرى تقدم الضابط فاروق عبدالوهاب من المغارة.
وجاء صوت السفاح من داخل المغارة يقول له: الوداع يا فاروق.. أنا خلاص نويت أموت نفسي.. بس حا اسمع الراديو شوية!
عاد الصمت مرة أخرى.
وهنا أطلق رجال الشرطة بعض القنابل المسيلة للدموع فى مدخل المغارة، لكن الرياح حملت الغاز إلى الناحية الأخرى.
وفى هذه اللحظة استعد ثلاثة من رجال الشرطة لاقتحام المغارة.
النقيب صفوت ثابت سوريال والنقيب عاطف عزالعرب والشرطى عبدالعزيز إسماعيل.
وفى اللحظة التى انطلقوا فيها إلى داخل المغارة، كان رصاص بقية القوات يدوى كساتر لهم.
ومن بعيد كان الآلاف من أهالى حلوان يتابعون المشهد المثير. واقتحم الضابط صفوت سوريال المغارة أولًا.. ومن ورائه زميله والشرطي.
وسمعت القوات صوت أربع رصاصات تدوى داخل المغارة!
ثم أعقب ذلك صمت غريب.
وأخيرا ظهر الضابط صفوت سوريال على باب المغادرة.
وصاح: قتلته.. قتلته!
واندفع الضابط والجنود يعانقونه ويقبلونه!
وأسرع أهالى المنطقة يحملون الضابط والجنود على أعناقهم!

■ ■ ■
بدأت النيابة تحقيق حادث مصرع السفاح.
واستمع إبراهيم زاغو، رئيس نيابة حلوان إلى أقوال الشهود.
- قال النقيب صفوت ثابت سوريال: كنت موجودا فى القشلاق الساعة الثانية عندما صدرت لى الأوامر بالتحرك مع قواتى إلى حلوان.
فأخذت معى قنابل مسيلة للدموع، وأسرعت إلى المغارة التى اختبأ فيها السفاح واشتركت مع بقية القوات فى حصارها.
واستعملنا القنابل المسيلة للدموع بأمر من اللواء عبدالحميد خيرت حكمدار القاهرة، لإجبار السفاح على الخروج من المغارة، لكن دخان القنابل كان يرتد بفعل الرياح. واقتربنا من المغارة واتضح أن لها منفذين، أحدهما كبير والآخر صغير.. واخترنا المنفذ الكبير للدخول، وقفزت إلى داخل المغارة يتبعنى زميلي الضابط والعقيد العبودي.
كان أول المغارة عبارة عن غرفة مستديرة كبيرة، تؤدى إلى غرفة أخرى صغيرة، ويفصل بينهما بروز من الصخر، وكان السفاح مختبئًا فى المغارة الصغيرة، وأسرعنا بالاحتماء خلف البروز الصخري، وأنا أطلق مدفعى الرشاش، وزميلى يطلق مدفعه، فى اتجاه الغرفة الصغيرة. ثم قفزنا من البروز الصخرى إلى الغرفة الصغيرة، ورأينا السفاح جالسًا على الأرض، وأسرع بإطلاق ٣ رصاصات علينا، ولكن لم يصب أحدا منا، ثم أطلقنا عليه نار المدافع الرشاشة، فانقلب على جنبه الأيسر، ولفظ أنفاسه الأخيرة!
■ ■ ■
وقال العسكرى عبدالعزيز محمد عطال المجند بقوات فرق الأمن: «كنت ضمن القوة المحاصرة للمغارة، وأخذ السفاح يطلق علينا رصاص مسدسه، وقررت أن أدخل عليه المغارة، وأصرعه برصاص بندقيتي، وتقدمت حتى طرف المغارة وأصبج بينى وبين السفاح أربعة أمتار.
ولكن قبل أن أطلق عليه رصاصة البندقية، أطلق على رصاص مسدسه، فأصابنى فى جنبى الأيمن، وهنا أسرع زميلى الجندى إسماعيل على بدر إلى نجدتي، ولكن السفاح أصابه هو الآخر، بطلقة فى جانبه الأيسر! وكشف المحرر مصطفى سنان الصحفى بجريدة الأخبار فى اليوم التالى عن واقعة مثيرة خلال حصار الشرطة للمغارة، وقبل مصرع السفاح، وهو أنه- الصحفى مصطفى سنان- كان حاضرًا مع رجال الشرطة، وتحدث مع محمود أمين سليمان! وروى الحكاية قائلًا: تحدثت مع السفاح ربع ساعة قبل مصرعه. وسمعت صوته من داخل المغارة يطلب الرائد فاروق عبدالوهاب، وطلب منه وقف إطلاق النار حتى يكتب له طلباته قبل التسليم، أو يحضر له صحفيا يكتب له.
وقال السفاح: وأحضر لى زوجتى نوال، وإلا لن أخرج من هنا!
وتقدمت إلى جوار فتحة المغارة.
- وقلت له: يا محمود.. أنا صحفى وسأكتب أقوالك!
- صاح السفاح: إنت مين.. ورينى شكلك!
- قلت له: أنا مندوب الأخبار، وسأكتب كل كلمة تقولها، وقال له الرائد فاروق عبدالوهاب: قول اللى عاوز تقوله يا محمود
ونظرت داخل المغارة.
فرأيت السفاح يقف خلف جدار منحوت فى الصخر داخل المغارة.. رأيت وجهه وصدره وذراعه، وكان يضع يده على فتحه الجدار، وهو يشمر ذراعه ويرتدى الساعة المسروقة من بيت العمدة!
وكان يتحدث بصوت أشبه بالصراخ.
وكانت لهجة صعيدية، ونبرات صوته كلها انفعالات.. الأمل.. الموت.. الانتقام.. الحيلة والمكر.
وكانت عيناه سريعتى الحركة تنظران نحو فتحة المغارة، كان يحملها العقيد عبدالرحيم العبودي.
صاح: ابعد البندقية المصوبة ناحيتى أحسن.. أنا معى ٦٠ طلقة رصاصة!
- رد عليه الرائد فاروق عبدالوهاب: مفيش حد حيضربك.. ألق مسدسك واخرج!
- رد السفاح: أنا لن ألقى المسدس إلا إذا دخلت أنت.. واكتب يا محرر الأخبار كل كلامي!
وبعد لحظة صمت.
- صاح: ادخل يا فاروق!
- رد عليه الضابط: سأقف لك على باب المغارة حتى تضمن عدم إطلاق الرصاص عليك!
قال السفاح: لا.. ابعد عن فتحة المغارة وكلمنى.. ولن أخرج إلا إذا أحضرتم نوال!
- سألته: ولماذا تريد زوجتك؟
- قال: لن أخرج قبل حضورها.. الشرطة مستعجلة على ليه؟!
- قال له الضابط فاروق: الحكمدار وعد بأن يحضر لك زوجتك إذا خرجت معي.
- رد بصوت حاد: لن أخرج.. تحضروها إلى هنا!
- عدت أسأله، عاوزها ليه.. ما داموا سيحضرونها لك.. ووعدوك.
- صاح من داخل المغارة: أريد أن أقتلها.. نوال الجاهلة الخائنة.. كتبت عنى مذكراتها فى جريدتكم.. عنى أنا زوجها!
- تدخل الضابط فاروق قائلا للسفاح: ألق مسدسك يا محمود، وسوف أدخل لك.
- رد السفاح: أدخل ولن أفعل شيئا.. لن أطلق النار.
- قال له الضابط: الحكمدار يعدك بأنك ستخرج سليما.
- سارعت بدورى أقول له: سوف أكتب كل ما تقول، والشرطة تؤمنك، لقد وعدك فاروق.
- رد قائلًا: تعال أنت يا صحفى معى حتى أكتب، وأريد أن يحضر فاروق معك إذا ألقى سلاحه.
- صاح فيه أحد الضباط: اخرج يا محمود ولن يقربك أحد.
- رد فى انفعال: إما أن ينزل أحد معى هنا، وإما أن أطلق رصاصى كله على الناس وعليكم.. أنا معى ٦٠ رصاصة.
رد عليه الضابط فاروق: أنا عارف يا محمود أنت معاك ٦٠ رصاصة.. الق بالمسدس، وسأقف لأحميك على باب المغارة.
لكنه لم يرد..
أطلق عدة رصاصات سريعة من داخل المغارة..
- ثم عاد ليقول: أنا معى ٦٠ رصاصة.. فليحضر أحد هنا لأخرج معه.. تعالى يا صحفى.. تعالى يا فاروق!
كان فى عينيه نظرات المكر.
- وعاد يقول: أنا كتبت ورقة قبل دخول المغارة، لكن نفسى اقتل نوال.
وشاهدت المسدس يرتفع فى يدى السفاح.
وأطلق عدة رصاصات نحو خارج المغارة.
وأطلق رجال الشرطة قنابل الغاز فى المغارة.
وتتابعت الأحداث..
واندفع النقيب صفوت بمدفعه إلى داخل المغارة.
فى نفس اليوم نشرت الصحف أن عباس رضوان، وزير الداخلية، سلم بيده مبلغ خمسمائة جنيه للسائق إبراهيم على طايل، والخفير عبدالعظيم سيف دياب، مكافأة لهما على مساعدتهما فى الإرشاد عن السفاح محمود أمين سليمان.
وقد استقبل وزير الداخلية السائق والخفير فى مكتبه بوزارة الداخلية، وكانت مبالغ المكافأة من ورق البنكنوت فئة الخمسة جنيهات.
■ ■ ■
قدمت نوال زوجة محمود أمين سليمان طلبا إلى رئيس نيابة جنوب القاهرة للسماح لها برؤية زوجها فى المشرحة. وقالت فى الطلب: «مقدمته لسيادتكم نوال عبدالرءوف، لقى زوجى محمود أمين سليمان الشهير بسفاح الإسكندرية، مصرعه أمس بيد رجال الشرطة، وجثته موجودة الآن فى مشرحة النيابة بزين العابدين، وقد حضرت خصيصا من الإسكندرية لألقى النظرة الأخيرة عليه قبل دفنه، فأرجو التصريح لى برؤية الجثة فى المشرحة».
ويصرح رئيس النيابة لنوال برؤية جثة زوجها.
وفى طريقها إلى المشرحة كانت ترتدى تايير أسود، وبلوزة صوف حمراء، وحذاء بيج وتمسك بحقيبة يد سوداء.
وكانت هادئة الأعصاب.
وسألها أحد الصحفيين عن شعورها وهى فى طريقها لرؤية جثة زوجها؟
فردت عليه قائلة: ولا حاجة، أشوفه لآخر مرة، كان عاوز يموتني، وربنا انتقم لى منه، أنا مش مهتمة بموته أبدا، لأنى متأكدة من زمان إن دى لازم تكون آخرته، أنا كنت عارفة إنه كان لازم يموت قتيل بالشكل ده، ودى نهاية أى واحد يستهتر بأرواح الناس وبالقانون.
ودخلت نوال المشرحة.
وشاهدت جثة محمود أمين سليمان.
وقفت فى هدوء عجيب.
ولم يظهر عليها أى تأثر أو انفعال.
سألها أحد الصحفيين عن سر ذلك.
فقالت: أنا مش هاممنى أى حاجة أبدًا، أهو مات وارتحت منه خلاص، وأنا قلت له ساعة ما حاول يموتني: أنا مش هاموت يا محمود، حا أعيش وأشوفك وأنت بتتعذب، لأنك عذبتنى كتير، فى السنين اللى عاشرتك فيها، وكنت بتعاملنى أسوأ معاملة، وأهو جه اليوم اللى شفت نهايته فيه وأنا لسه عايشة، وعندما سألها أحد الضباط إن كانت تريد أن تتسلم جثة زوجها؟
رفضت وقالت: أعمل بيها إيه؟ لا موش عايزاها، أنا ما صدقت إنى خلصت منه، ودلوقت حا أربى أولادى كويس، وهو ادعى إن فيه علاقة بينى وبين المحامى بدر الدين أيوب، لكن كل ده كذب، لكن الحقيقة إن محمود كان محروق من بدر الدين، لأنه أقرضه مبلغا كبيرا، أكتر من خمسة آلاف جنيه، وبدرالدين ده ماكانش حاجة من سنتين، ده كان كمسارى وكان محمود بيفصل له البدلة على حسابه.
■ ■ ■
تم دفن جثة محمود أمين سليمان فى مقابر الصدقة بزينهم.
ولم يتقدم أحد من أهله أو أقاربه لتسلم الجثة بعد أن تم تشريحها من الساعة العاشرة صباحا، حتى الساعة الثانية ظهرا.
وتم إسقاط الدعوى الجنائية فى ٧ جنايات ارتكبها فى الإسكندرية والقاهرة، وذلك لوفاته.
وفى نفس اليوم قام المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بعد أن صب الجبس على وجه السفاح بعد مصرعه، بعمل رأس مجسم يبين ملامحه فى اللحظات الأخيرة.
وسوف يوضح تمثال رأس السفاح فى متحف المركز الجنائي، وكانت هذه أول مرة يتم فيها عمل تمثال لرأس مجرم فى مصر.
وكان مأمور قسم شرطة السيدة زينب قد توجه إلى مشرحة زينهم، وأشرف على الإجراءات الأخيرة لدفن جثة السفاح، التى تم لفها فى قطعة قماش من قماش الشاش، وحملها أحد المخبرين إلى مقابر الصدقة المجاورة، وسار خلفه مأمور القسم.
وتم عمل حفرة فى الأرض، ووريت فيها جثة السفاح.
وكان قد عثر معه داخل المغارة بعد مصرعه على ستة أرغفة من الخبز.
وحاول البعض فى المشرحة إعطاءها لمتسول، فرفض المتسول أخذها.
■ ■ ■
بعد خمسة شهور فقط من مصرع السفاح نشرت مجلة صباح الخير يوم أول سبتمبر ١٩٦٠ خبرا صغيرا يقول: «نوال أرملة محمود أمين سليمان، السفاح الذى لقى مصرعه فى مغارة حلوان، تزوجت فى الأسبوع الماضى من عبدالعزيز نجاتي، من عزبة نجاتى مركز بسيون غربية، وهذا هو الزواج الثالث لكل منهما».