الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود صلاح يكتب: "سفاح مصر".. رسالة من القاتل إلى رجال المباحث مع سائق تاكسي!

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم تكن الإسكندرية فقط، بل القاهرة ومصر كلها، التى أصيبت فى تلك الأيام بما يمكن أن يقال عنه.. «جنون السفاح».

ربما لم يكن محمود أمين سليمان لصًا عاديًا، بل كان لصًا خطيرًا ذكيًا، لكن الظروف وخيانة الأحباء والأصدقاء، هى التى حولته إلى مجرم خطير يبحث عن الانتقام.

أما الصحافة فهى التى ـ بالتأكيد ـ أشعلت نار حمى المطاردة والاهتمام. والصحافة أيضًا هى التى أطلقت عليه اللقب الذى لازمه حتى النهاية.. لقب السفاح!


صباح يوم ٧ مارس ١٩٦٠

صدرت الصحف فى مصر وهى تحمل العناوين المحمومة عن تطورات القصة..«سفاح الإسكندرية ارتكب الجريمة رقم ٦».. «خطاب مع سائق تاكسى من السفاح إلى مباحث الاسكندرية».. وقالت الصحف: سفاح الإسكندرية ما زال طليقًا وفى يده مسدس ملىء بالرصاص! إنه يظهر فقط فى السحور، يرتكب جرائمه ثم يختفى!ارتكف السفاح جريمته رقم ٦ ساعة السحور، اقتحم حديقة فيلا المليونير «بولفارا» وأطلق الرصاص ليقتله، لكن الرصاص أصاب الخادم!

■■■

أما التفاصيل التى تابعها ملايين المصريين فى جرائد صباح ذلك النهار فقد كانت أكثر سخونة.. قالت الصحف: بالأمس كانت الإسكندرية تتحدث عن جريمة السفاح رقم ٥. الجريمة التى حاول فيها السفاح قتل زوجته لكنه أخطأها وأصاب شقيقتها، والآن عاد ليرتكب الجريمة السادسة، لقد ارتكب ٧ جنايات قتل وشروع فى قتل فى عشرة أيام فقط، وهو يعد خطة هروبه قبل أن يرتكب جريمته. إن السفاح يبرر ارتكابه لجرائمه بغيرته على زوجته. ولقد ترك خطابًا مفتوحًا إلى رجال مباحث الإسكندرية مع سائق تاكسى.. وخطورة السفاح التى يعرفها رجال المباحث، أنه انقلب من لص إلى سفاح، وأنه على دراية تامة بطرق الهرب، وجسمه يساعده على القفز فوق الأسوار العالية. فقد كان رياضيًا فى مدرسة الفرير، ويتقن قفز الحواجز بسرعة وخفة!

والحب.. كان أزمة السفاح!

فقد أحب زوجته نوال وكانت متزوجة من قبله، وأقام معها علاقة قبل أن تترك زوجها وتتزوجه.

وحياة السفاح (٣٤ سنة) حياة مثيرة بالفعل، عاش متنقلًا بين القاهرة والكويت ولبنان والإسكندرية،

وكان شخصية مهيبة أمام أصدقائه، لم يكن يظهر أمامها بمظهر اللص، بل تخفى فى شخصية مدير مكتب للصحافة والدعاية والنشر، وكانت شخصيته مزدوجة، وكان يظهر أمام الذين يبيع لهم المسروقات على أنه من تجار العاديات والتحف وأصحاب النفوذ، وكان ينزل دائمًا فى فنادق الدرجة الأولى بالقاهرة، أو يسكن فى أرقى الشقق، وكانوا يلقبونه.. «محمود بك أمين»! لكن النحس لازمه فى حادث سرقة فيلا «سباهى». فقد ألقى القبض عليه بعد السرقة وبالرغم من أنه دخل منزلًا آهلًا بالسكان والخدم إلا أنه استطاع الهرب، وعندما قبض عليه، كانت القضية الرسمية الأولى فى حياته. واستمع محمود أمين سليمان فى محكمة الجنايات إلى حكم بسجنه عامين، وعندما وزعت صوره على أقسام الشرطة ورجال المباحث انكشفت عشرات القضايا التى لم يضبط فيها وكانت فى رقبته! أما زوجته نوال، فقد كانت قد تم عقد قرانها على تاجر بالزقازيق، لكنها انفصلت عن زوجها وتزوجت محمود أمين سليمان قبل حادث سرقة فيلا «سباهى» بثلاثة شهور فقط، وأحبها وأحبته وأسكنها أحسن الشقق وجعلها تقتنى مجموعة فاخرة من الملابس والحلى، لكن حياة نوال ومحمود انقلبت فجأة إلى جحيم، فقد كان يغار عليها ولا يطيق أن يراها تقف فى الشباك أو تخرج بمفردها. كان يخاف أن تحب أحدًا غيره، كما أحبته وهى على ذمة زوجها السابق.

وأصبح محمود أمين سليمان مهددًا دائمًا بالقبض عليه، وكان يخاف على زوجته وهو خارج المنزل. فلم يكن يتركها إلا ليلًا ليرتكب حوادث السرقة ثم يعود إلى البيت قبل الصباح!

■■■

وبنفس طريقة الإثارة الصحفية أكملت الصحف رواية قصة السفاح فقالت: وعندما ألقى القبض عليه فى حادث سرقة فيلا أم كلثوم، بحث عن محام، وتقدم له أنور سلامة ـ الذى كان يعمل وكيلًا لمكتب الأستاذ بدر أيوب المحامى ـ ليوكل إليه الدفاع عن نفسه، وبدأت الصلة بين محمود أمين سليمان والمحامى بدر أيوب، وانقلبت إلى صداقة متينة، وتبادل الاثنان الزيارات العائلية فى منزليهما، وانضم إليهما المهندس محمود أمين سلامة، وعندما تم القبض على محمود أمين سليمان، أصبحت زوجته نوال هى الصلة بين زوجها والمحامى، ثم بدأ الهمس يدور حول علاقة الزوجة نوال بالمحامى وأختها بالمهندس! ووصل الهمس إلى أذن محمود أمين سليمان.. فتحول إلى صراخ، وأقسم على الانتقام.

وفى آخر زيارة لزوجته له فى السجن، طلب منها ألا تحضر مرة أخرى وأنها خائنة ولأنها لطخت اسمه!

لكن نوال لم تشعر بالخوف لأنها كانت تعرف أن قضايا زوجها لا ولن تنتهى! لكنه فى السجن ابتلع كمية من الدبابيس، ونقل إلى المستشفى، وتمكن من الهروب، ووصل إلى الإسكندرية فى قطار الصحافة مرتديًا زى ملازم شرطة! وبدأ سلسلة جرائمه الغريبة، هذه المرة ليس لصًا، بل سفاحًا يطالب بالأخذ بالثأر لعرضه وشرفه!

■■■

وخلال أسبوعين ارتكب محمود أمين ٧ جرائم قتل وشروع فى قتل! منها ثلاث جرائم فى القاهرة، عندما أراد أن يقتل صديقه المحامى طلعت عبدالرازق، الذى يخفى عنده محامى الإسكندرية بدرالدين أيوب، ثم أطلق الرصاص على بواب العمارة وعلى شخصين كانا يسيران فى الشارع، وعندما جاء إلى الإسكندرية، أطلق النار على المهندس محمود أمين سلامة، وهو يتناول طعام الإفطار فى منزله فى كرموز، ثم اقتحم منزل زوجته نوال ليقتلها، لكنه أخطأ وأصاب شقيقتها.، ثم وقعت الجريمة السادسة، لكن السفاح أخطأ إطلاق الرصاص كعادته!

فى المرة الثانية كانت زوجته نوال هى هدف رصاصاته.. لكنه أصاب شقيقتها، وفى الجريمة السادسة أراد أن يفرغ رصاص مسدسه فى قلب المليونير بولفارا، صاحب مصانع بولفارا لنسيج الحرير بمحرم بك، لكنه أخطأه أيضًا وأصاب خادمه محمد عطا الله.

وكان المليونير «بولفارا» قد نهض من نومه على طلقات الرصاص، أضاء نور الحجرة وفتح النافذة المطلة على الحديقة، لكنه لم يتبين شيئًا لشدة الظلام، وسمع أنين الخادم وشاهده ملقيًا على درجات السلم، فهرول إلى الباب الرئيسى وأضاء النور ليفاجأ بالخادم والدماء تنزف من ساقه.

ولم تمض دقائق حتى كانت الفيلا الهادئة تغص برجال الشرطة والمباحث وأحاط رجال الشرطة بالخادم المجنى عليه، وضربوا حصارًا حول الفيلا، وفتشوا كل شبر بحثًا عن السفاح، وعندما عرض رجال المباحث صورة السفاح على الخادم المصاب، لم يكن فى كامل وعيه لكنه مع ذلك أدلى بأوصاف تنطبق على السفاح. قال إنه قصير ويرتدى الملابس الأفرنجية، وما جعل ظنون رجال المباحث تتجه إلى اتهام السفاح، أنهم علموا قبل الحادث بساعات أنه شوهد يتجول فى منطقة الرمل وهو يرتدى ملابس «خواجه»، والسفاح الهارب يستخدم سيارات التاكسى فى تنقلاته، وهو ينتقل من سيارة تاكسى إلى أخرى.

وفى كل مرة يكشف لسائق التاكسى عن شخصيته ويهدده بمسدسه ثم يهبط ويختفى فى الظلام!

وحدث أنه ركب مرة يكشف لسائق التاكسى عن شخصيته ويهدده بمسدسه ثم يهبط ويختفى فى الظلام!

وحدث أنه ركب سيارة تاكسى وطلب من السائق توصيله إلى محطة بنزين كليوباترا بطريق الحرية، لكنه طلب منه التوقف فى أحد الأركان المظلمة، ثم شهر مسدسه فى وجه سائق التاكسى ومد له يده الأخرى بجريدة فيها صورته.


وقال للسائق وهو يشير إلى الصورة: تعرف ده مين؟

عقد الرعب لسان السائق وهو ينظر إلى وجه السفاح، الذى ناوله خطابًا..

وقال له: سلّم ده.. لرجال المباحث!

وفى هذه الرسالة كتب السفاح يقول لرجال المباحث:

«إن هدفى الوحيد هو المحامى وزوجتى فقط.. وإلى أن أتوصل إليهما سأظل أسفك الدماء»!

■■■

وبدأت الصحف سباقًا محمومًا فى تتبع أخبار السفاح الهارب.

وكان سباقًا صحفيًا غريبًا، حتى إن الصحف فى اليوم التالى عندما لم تعثر على أخبار جديدة عن السفاح كتبت جريدة الأخبار على الصفحة الأولى «مانشيت» مثيرًا يقول «سفاح الإسكندرية فى إجازة ٢٤ ساعة»، وقالت «الأخبار»: إن سفاح الإسكندرية أخذ أمس إجازة لم يطلق فيها رصاصة واحدة!

لكنه اتصل بمترجم وهدده بالقتل واتهمه بأنه على علاقة بزوجته نوال!

لكن الصحف صدرت فى اليوم التالى وهى تحمل على صفحاتها الأولى رسالة من حكمدار الإسكندرية للسفاح يقول له فيها.. سلم نفسك!.. وقالت الصحف إن محافظ الإسكندرية قال إن محمود أمين سليمان لص وليس سفاحًا، وأنه فشل فى قتل ضحاياه ولم يقتل منهم إلا واحدًا لكن السرقة هى هوايته!

وقال حكمدار الإسكندرية: إن هذا السفاح فى نظرنا شىء تافه وهو يحب السطو على المنازل الكبيرة لأنه لص «أرستقراطى»، وأنا أطلب من الناس ألا يتأثروا بتهديداته، ورجال الشرطة لا ينامون بحثًا عنه، ولا بد أن نقبض عليه حيًا أو ميتًا.. ونصيحتى للسفاح هى «سلم نفسك حتى نضع حالتك النفسية موضع الاعتبار»!

وفى نفس اليوم.. قامت إذاعة الإسكندرية المحلية بإذاعة أوصاف محمود أمين سليمان، وناشدت الجمهور مساعدة الشرطة فى الإرشاد عنه وعدم تقديم بلاغات كاذبة، وحذرت كل شخص يتستر عليه!

وفى نفس اليوم أيضًا، وقامت شرطة الإسكندرية بلصق صور محمود أمين سليمان بالحجم الكبير على حوائط وجدران المدينة، وكان بين كل صورة وصورة مائة متر، وكتب على الصورة «مطلوب القبض على هذا السفاح»!

■■■

وأسرع بعض الصحفيين إلى بيت المحامى بدرالدين أيوب، الذى قال محمود أمين سليمان إنه سيكون الهدف الأول لرصاصات مسدسه، وكان الاضطراب باديًا على المحامى، لكنه كان جالسًا يكتب مذكرات السفاح كما رواها له! وتحدث المحامى للصحفيين، وقال لهم: لقد شوه السفاح محمود أمين سليمان سمعتى، وزلزال مركزى كمحام.. ولقد بدأت حكايتى معه سنة ١٩٥٠ عندما أحضر لى سكرتيرى أنور سالم هذا الشخص إلى مكتبى لأول مرة، وأفهمنى أنه عديله وطلب منى محمود أمين سليمان حضور تحقيق خاص بزوجته نوال عبدالرءوف، التى كانت محتجزة فى قسم شرطة باب شرقى لاتهامها بإخفاء كاميرا مسروقة، وحضرت التحقيق وقالت نوال إن الكاميرا أهداها لها أحد أقارب زوجها الذى يعيش فى سوريا وتم الإفراج عنها، وبعد يوم عاد محمود أمين سليمان إلى مكتبى.

وتابع: "دفع لى باقى أتعابى وكان من عادته أن يدفع أتعابًا مجزية تصل إلى مائة جنيه ثم جلس يدردش معى، وعرفت منه أنه صاحب دار نشر كبيرة ويملك جراجًا فى سيدى بشر، ويمتلك سيارة لكنها محجوزة فى قضية عندى".ومن مناقشتى الأولى معه اعتقدت أنه شخص مثقف مهذب، كان يتكلم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ويراعى «الإتيكيت» فى تصرفاته كأولاد الذوات، وبعد أسبوع تقريبًا، حضرت إلى مكتبى زوجته نوال، وأبلغتنى أنه محبوس على ذمة قضية سرقة أم كلثوم، وفوجئت بهذا الخبر لأننى لم أكن أتصور أنه لص، وطلبت منى السفر غلى القاهرة للدفاع عنه، أمام محكمة جنح قصر النيل، ولكى تتأكد من سفرى طلبت أن تسافر معى، هى وغادة أخت محمود أمين سليمان، التى كانت متزوجة من «أمباشى بحرى» اسمه حسن، وسافرنا بالفعل نحن الثلاثة.

وأقمت بمفردى فى فندق المغربل. أما هما فلا أدرى أين أقامتا، وفى اليوم التالى حضرت القضية وحكم فيها بحبسه ٦ شهور، وكانت صدمة لنوال، وعدنا إلى الإسكندرية.

■■■

وأكمل المحامى بدر الدين أيوب حكايته قائلًا: "طلبت منى نوال أن أبحث عن أية وسيلة لإخراج زوجها محمود من السجن، وصارحتنى بأنه محكوم عليه غيابيًا بشهرين لتبديده منقولات كان محجوزًا عليها وفاء لمبلغ ٢٨ جنيهًا أجرة سكنه بالقاهرة. وقدمت أشكالًا فى حبسه أمام محكمة الجنح المستأنفة.

وكان ذلك الأول من نوعه وقضى بقبول الإشكال والإفراج عنه، لكن فى أثناء وجود محمود فى السجن على ذمة عقوبة قضية فيلا أم كلثوم تمكن من الهرب مرتين، وكلفنى بالحضور والدفاع عنه فى قضيتى الهرب، وقضى فيهما بالبراءة من محكمتى جنح عابدين والخليفة! وكانت لمحمود أمين سليمان طريقته فى الهرب من السجن".

واستطرد: "كان يحاول الانتحار بابتلاع دبابيس أو شفرات حلاقة، وينقلونه إلى المستشفى ويتظاهر أمام الحراس أن معه محفظة مليئة بالأوراق المالية ويضعها أمامهم تحت المخدة، ثم يطلب التوجه إلى دورة المياه، فلا يخطر على بال الحراس أنه سيهرب ما دام قد ترك نقوده تحت المخدة! وعندما صدرت الأحكام بالبراءة فى قضايا الهروب وتم الإفراج عنه، أذهله ذلك لأنه لم يكن يتصور أنه سيتم الإفراج عنه، ولم يكن يخاطبنى إلا وعيناه فى الأرض، وبدأ محمود يعترف لى بأسراره، ويعترف أيضًا بجرائمه، وقال لى إنه منذ صغره وحتى الآن كان مسيرًا وكان مدفوعًا إلى طريق الجريمة. وسألنى: قل لى.. ماذا أفعل؟ وقلت له.