السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نساء.. فلاسفة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«نساء.. فلاسفة» هو عنوان كتاب من تأليف الدكتور إمام عبدالفتاح إمام، ويثير هذا الكتاب أمرين، أما الأمر الأول فهو عنوان السلسلة التى صدر عنها الكتاب - بوصـفه العدد الرابع - وأعنى به «الفيلسوف.. والمرأة». فقد ألِفَ القارئ أن يكتب له الكتَّاب والمؤلفون عن «الشاعر.. والمرأة»؛ «والفنان.. والمرأة». أما «الفيلسوف.. والمرأة» فهذا شىء لم يألفه القارئ قط.
أما الأمر الثانى الذى يثير دهشة القارئ أيضًا، فهو أن تكون المرأة فيلسوفة! وكيف يمكن له أن يتقبل ذلك فى سهولة ويسر فى الوقت الذى تموج فيه الساحة الثقافية من حوله بآراء لا حصر لها تنم عن «الضعف العقلى للمرأة»، و«سرعة العاطفة والانفعال» و«كراهية التجريد، والبحث النظرى الخالص» والاهتمام بالحسيات. فكيف يمكن أن يأتى اليوم كتاب يحدثنا عن «نساء.. فلاسفة» فى العالم القديم أيضًا؟ كيف يقول لنا إن زوجة فيثاغورس هى التى تولت إدارة المدرسة بعد زوجها؟ لكن رغم دهشة القارئ، فهذا ما حدث بالفعل.
عرض الدكتور إمام فى كتابه «نساء.. فلاسفة» وعلى مدى ثمانية فصول - وحوالى ثلاثمائة وسبع عشرة صفحة من القطع المتوسط - لمجموعة من «النساء.. الفلاسفة» فى العالم القديم، فى محاولة من جانبه لإثبات رجاحة عقل المرأة، وقدرتها على التفكير العلمى التى لا تقل عن قدرة الرجل، ولا سيما فى مجال التفلسف الذى يبدو حقلًا مغلقًا على الرجال وحدهم، وبذلك تسقط الفكرة السائدة والساذجة معًا عن «العقلية النسائية الضعيفة والناقصة»، وتنتهى إلى إلغاء تلك الفكرة العقيمة التى تشطر العقل البشرى شطرين «رجالى» و«نسائى».
والطريف أن المؤلف يُصَدِّر المدخل العام لكتابه بآية من القرآن الكريم عن «بلقيس» ملكة سبأ، تشهد برجاحة عقلها، وبعبارة لأرسطو يتحدث فيها عن ضعف عقل المرأة وعدم قدرتها على الرئاسة. ويقول المؤلف إننا تركنا الآية المضيئة التى تشهد بقدرة المرأة على إدارة دفة الحكم، وأخذنا بعبارة أرسطو الوثنى لنضفى عليها شيئًا من القداسة. ويؤكد المؤلف أن من يذهب إلى أن الدين يؤيد فكرة أرسطو الساذجة عن دونية المرأة، إنما يضل ضلالًا بعيدًا.
هذا الكتاب هو دعوة موجهة إلى المرأة العربية كى تستعيد الثقة بنفسها، وتنفض عنها غبار السنين الطويلة من الجهل والتخلف، إنه دعوة لنبذ الفكرة الساذجة التى تقول «إن عقل المرأة أقل من عقل الرجل»، أو أن تفكيرها تغلب عليه العاطفة والانفعال، وأن أحكامها يسيطر عليها الاندفاع والتهور، وتنقصها الرؤية والتدبر. يكشف الكتاب عن زيف هذه الفكرة التى قال بها أرسطو - المعلم الأول - ثم شاعت فى العالمين العربى والغربى على حد سواء، وأصبحت هى الهادى والمرشد عن النساء بصفة عامة، وأصبحت المرأة «رجلًا ناقصًا» لا دور لها فى الدنيا سوى الإنجاب وتربية الأولاد.
وأخطر ما فى نظرية أرسطو أنه يذهب إلى أن «الطبيعة التى لا تفعل شيئًا باطلًا» هى التى جعلت المرأة على هذا القدر من الدونية، وليس للعادات والتقاليد أو أفعال المجتمع - لا سيما المجتمع الذكورى - دخل فى تحديد هذه الدونية.
يستعين المؤلف بشواهد التاريخ لإثبات أن هناك «نساء فلاسفة»، لأننا إذا أثبتنا أن هناك امرأة واحدة تفلسفت، فإننا نهدم بذلك آلاف الأمثلة الإيجابية التى يقول بها أصحاب الفكرة الأرسطية المتخلفة التى تغمض العين حتى لا ترى نماذج مضيئة لنساء راجحات العقل صائبات التفكير. ويرى الدكتور إمام عبدالفتاح إمام أنه لا يكفى للبرهنة على صحة التعميم أن يأتى مُؤَيدًا بحالات كثيرة وعديدة، إذ إن حالة واحدة معارضة (سلبية) تكفى لنقضه، فالحالات السلبية التى تنقض هى - عنده - أهم فى البحث العلمى من الحالات الإيجابية المؤيدة، مهما كثرت وتعددت. ذلك لأن اكتشاف الشواهد المؤيدة لنظرية ما (أو لتعميم معين) يكاد لا يكون له شأن، إلا إذا حاولنا اكتشاف ما يكذبها، وفشلنا فى هذه المحاولة، لأننا إذا لم نتخذ موقفًا نديًا، فسوف نعثر دائمًا على ما نريد: أى أننا سنبحث عما يؤيدها وسنجده، وسنصرف النظر عن كل ما يمكن أن يهدد النظريات أو التعميمات التى نفضلها، فلا تقع عليه أبصارنا. وهكذا يسهل الحصول على ما يبدو لنا بينَّة هائلة على صدق نظرياتنا. ولو نظرنا إلى هذه النظريات نظرة نقدية، لتبين لنا كذبها.
من هنا تأتى أهمية المنهج الذى اتبعه المؤلف، لأن النتيجة العملية لهذا المنهج هى هدم الفكرة الشائعة عن ضعف المرأة، ونقص العقل عندها، وغلبة الانفعال والعاطفة عليها، وسيطرة التهور والاندفاع... إلخ، فتلك كلها أوهام خلقها «عقل الرجل» ويبددها الواقع الحى الذى نعيشه.
الواقع إن الحملة التى تُشَنْ ضد «عقل المرأة»، والزعم بعدم قدرتها على التفلسف، والقول بأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلاسفة من الرجال. هذه الحملة تتغافل الدور السلبى الذى لعبته الظروف الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية التى منعت المرأة من التفلسف، وليس بسبب «نقص» أو «خلل» فى قدرتها العقلية، الظروف التى أحاط الرجل بها المرأة هى التى مكنته من استعبادها وحصارها فى زاوية منعزلة من الدار، ليطلق عليها لفظ «الحريم»، وعندما خضع الرجل لطغاة عبر التاريخ حرَّموا عليه التفلسف على نحو ما فعل الإمبراطور الرومانى «نيرون» وغيره، اختفت الفلسفة أيضًا حتى بالنسبة للرجال، ومعنى ذلك أن الرجل لو كان فى وضع المرأة، ولو مر بهذه الظروف نفسها، لكان هو الأدنى والأقل عقلية أو العاجز عن التفلسف.
ويؤكد المؤلف أنه رغم خضوع النساء الطويل للرجال، واستعبادهن وعزلهن عن الحياة العامة، ونقص فرص التعليم أمامهن، بل عدم إتاحة الفرصة على أى نحو للمشاركة فى ثقافة العصر، رغم ذلك كله نجد نساء لامعات، لهن دور فى «البحث عن الحكمة» منذ فجر الفلسفة. صحيح أنه دور صغير وبسيط، لكنه يثبت - على أية حال - قدرتهن على القيام بدور أكبر إذا ما سنحت الفرصة، وتغيرت البيئة المناوئة.