السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

القمص أنجيلوس جرجس يكتب: اللغة القبطية

القمص أنجيلوس جرجس
القمص أنجيلوس جرجس
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اللغة هي أحد عناصر الموروث الثقافي والحضاري للشعوب، واللغة القبطية هي إحدى صور تطور الثقافة المصرية القديمة، والتي أخذت شكلاً في الكتابة متأثرة بالاحتلال اليوناني الثقافي لمصر في عصر البطالمة.
يظن البعض أن اللغة القبطية هي لغة مسيحيي مصر ولغة خاصة بعبادة الأقباط في الكنائس وهذا خطأ، فاللغة القبطية هي التطور الأخير للغة أجدادنا المصريين القدماء.
فقد عرف أجدادنا الكتابة بالطريقة التصويرية منذ عصر الأسرة الأولى 3200 ق.م. وإن كان البعض يرجع الكتابة لعصور أقدم من هذا.
وبدأت بالخط الهيروغليفي أي "النقش المقدس" وكانت تكتب على حوائط المعابد والمقابر والمسلات وأوراق البردي ثم حدث تطور أخر في الكتابة وهو الخط الهيراطيقي أي "الكهنوتي"، ومن المسمى نفهم أنه كان مستخدم من الكهنة للكتابة على أوراق البردي وهو خط مختزل وسريع ومتطور وإن ظل محتفظا بالقواعد الهيروغليفية في الكتابة.
وفي زمن الأسرة الخامسة والعشرين 736 ق.م ظهر الخط الديموطيقي أي "الشعبي"، وهو أكثر سهولة ليستخدمه أفراد الشعب. ومع دخول اليونانيين البطالمة إلى مصر وانتشارهم الكثيف بلغتهم اليونانية ظهر التطور الأخير للغة المصرية القديمة وهي اللغة القبطية، وبالرغم من دخول مفردات يونانية جديدة إلى أن مفردات اللغة أغلبها هو اللغة المصرية القديمة، ولكنها صارت تكتب بطريقة جديدة لتناسب النطق اليوناني للكلمات المصرية القديمة. فالمفردات اليونانية غير مفردات اللغة القبطية فمثلاً كلمة "اللـه" باليوناني تعني "ثيئوس"، بالقبطي "أفنوتي". وهي طريقة كتابة جديدة لمفردات قديمة فاستخدمت سبعة حروف من اللغة الديموطيقية بجانب الحروف اليونانية. ونلاحظ إن الكتابة القبطية هي الوحيدة بين صور الكتابة المصرية القديمة التي تسجل الحروف المتحركة التي بها نستطيع أن نأخذ فكرة دقيقة عن اللهجات المختلفة للمصريين القدماء، ومنها عرفنا أن هناك لهجة بحرية، صعيدية، فيومية، بهنساوية، أسيوطية، وأخميمية.
وتوجد وثائق تؤكد أن اللغة القبطية أخذت في الانتشار من القرن الثالث قبل الميلاد. وإن كان يرجع الفضل إلى القديس "بنتينوس" مدير مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني ميلاديا إلى نشر اللغة القبطية ليتعلمها كل الشعب القبطي لكي يقرأ الكتاب المقدس؛ الذي عكفت مدرسة الإسكندرية في ذلك الوقت لترجمة العهد القديم والجديد من اللغة العبرية واليونانية إلى اللغة القبطية مما جعلها ضرورة تعليمية لكل الشعب المسيحي.
ويرجع الفضل للكنيسة بالحفاظ على هذه اللغة في فك حجر رشيد وهو الإنجاز العلمي والثقافي والحضاري الذي صنعه "شامبليون" وبه عرفنا وعرف العالم كله تاريخ أجدادنا العظام. والقصة تبدأ حين اكتشف الفرنسيون عام 1799م. حجر في مدينة رشيد وهو الاسم القبطي للاسم القديم "رخيت"، ويرجع تاريخه إلى سنة 196ق.م، وهو حجر من أحجار البازلت الأسود ومسجل عليه تنصيب الكهنة للملك بطليموس الخامس في مدينة منف والاعتراف به ملكاً على البلاد وقد كتبه الكهنة كإعلان في كل البلاد. وقد اُكتشف أثناء قيام الضابط "بيير فرنسوا" بإعمال هندسية عند قلعة جوليان بالقرب من رشيد، وهي القلعة التي بناها "قايتباي" سنة 1499م. من أحجار معابد هُدمت لإنشاء هذه القلعة. وهو حجر عرضه 73سم. وسمكه 27 سم، وهو مكون من ثلاث لغات هيروغليفية وديموطيقية مكتوبة باللغة القبطية واليونانية.
واستطاع "شامبليون" عام 1822م. في قراءة ومعرفة هذا النص المكون من 54 سطراً لأنه كان يعرف اللغة اليونانية، ولكنه لجأ إلى كاهن قبطي وهو يسمى "يوحنا الشفتشي" وكان يعمل مترجما أثناء الحملة الفرنسية ثم اصطحبوه معهم إلى فرنسا. وهناك ذهب إليه "شامبليون" ليتعلم اللغة القبطية، ويقول في مذاكراته: "سلمت نفسي بالكامل إلى اللغة القبطية حتى أصبحت تسليتي الوحيدة هي ترجمة كل ما يخطر على بالي إلى اللغة القبطية، بل إنني أتحدث إلى نفسي بالقبطية وأتقنتها إلى الدرجة أنني أستطيع أن أعلمها لأي شخص خلال يوم واحد". وقد كانت اللغة القبطية هي المفتاح الذي به استطاع "شامبليون" أن يعرف اللغة المصرية القديمة ويفتح الباب المغلق منذ آلاف السنين على حضارة أجدادنا العظام.
ومن الجدير بالذكر أن القس يوحنا ساعد أيضا في إعداد كتاب وصف مصر، وقد نقل الحجر إلى لندن طبقا لشروط معاهدة استسلام الإسكندرية، وهو الآن من أحد أهم القطع الأثرية بالمتحف البريطاني.
وظلت اللغة القبطية هي لغة الشعب المصري حتى دخول العرب عام 641م. ودخل معها المتكلمون باللغة العربية وكانوا قليلون مقارنة بالمصريين. وفي عام 706م. أصدر الوالي "عبداللـه بن عبدالملك" أخو الخليفة الأموي "الوليد بن عبدالملك" قرارا يقضي بإبطال اللغة القبطية، ومنع استخدامها في الدواوين وأن يحل محلها اللغة العربية. فعزل رئيس الديوان القبطي وعين مكانه "ابن يربوع الفزاري" من أهل حمص. وبالطبع كان قرار التعريب لا بد أن يأخذ سنوات طويلة التي فيها تحول كثير من الأقباط إلى تعلم اللغة الجديدة حتى يستطيعوا الالتحاق بالوظائف الحكومية.
وظلت اللغتان قائمتين ولكن كان أغلب الشعب يتكلم القبطية إلى أن جاء عصر "الحاكم بأمر اللـه" 985م. الذي أمر بمنع التحدث باللغة القبطية في المنازل والطرق ومعاقبة كل من يتكلمها بقطع لسانه حتى اضطر الأقباط إلى التكلم بها في الخفاء وداخل الكنائس. ومع مرور الوقت ضعفت اللغة القبطية حتى اضطرت الكنيسة في القرن الثاني عشر إلى تعريب الكتب المقدسة والطقوس.
ويقول عالم المصريات الشهير "ماسبيرو" سنة 1908م. أن سكان الصعيد كانوا يتكلمون ويكتبون اللغة القبطية حتى القرن السادس عشر في أوائل حكم الأتراك. ولكن اضمحلت اللغة القبطية وأصبحت لغة الكنيسة، ثم اهتم بها علماء القبطيات في القرن التاسع عشر وطبعوا قواميس ودرسوا النصوص القبطية مما جعلها أحد علوم علم المصريات.
وبالرغم من الاضمحلال إلا أن المصريون قد احتفظوا بها في حياتهم اليومية، حتى أن كلامنا الشعبي الدارج به الكثير منها فكلمة "أمبو" بمعنى "ماء"، و"هوبا-ليسا" تعني "شغل أسرع"، "بخ" تعني "عفريت"، "توت توت" تعني "اجتمعوا اجتمعوا"، "شي حا" تعني "اذهب إلى"، "الضبة والمفتاح" فكلمة "الضبة" تعني "قفل"، حين تمطر نقول "روخي روخي" تعني "الغسيل"، "فلافل" تعني "فول كثير". وكثير من الكلمات الدارجة التي تجعل مصر لها هوية خاصة لن تتنازل عنها صنعها التاريخ والحضارة، فنحن نحمل في داخلنا حضارة لا يمكن أن يمحوها الزمن، وروحا لا يمكن أن تقهرها المحن.