الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم والتكنولوجيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يحتل العلم فى وقتنا الحاضر مكانة مرموقة، فالمعارف العلمية لم تبق سجينة المعاهد العلمية، بل أصبحت متداولة فى مختلف الأوساط؛ إنها تصل، بشكل أو بآخر، إلى قلب حياتنا اليومية لتحدد تصورنا للعالَـم وتوجه تعاملنا مع الأشياء. وأكثر من ذلك، فإن المعرفة العلمية أصبحت تعتبر نموذجًا للحقيقة، كما أصبحت صفة «علمي» مرادفًة لصفة «حقيقي». هكذا أصبحنا نتكلم عن «التحليل العلمي» و«الخطة العلمية» حتى فى ميادين بعيدة عن العلم. واقترنت سيطرة العلم فى عصرنا الحاضر بسيطرة التكنولوجيا. ولا شك أن العلاقة الوثيقة والمتعددة الأبعاد بين العلم والتكنولوجيا تسمح بالحديث عن توجه أو أسلوب «علمي - تكنولوجي» يسود عصرنا الحاضر ويتغلغل فى كل ميادين الحياة البشرية. ويمكن القول إن سيادة هذا التوجه «العلمي - التكنولوجي» هو السمة الأساسية لعالَـم اليوم.
من الثابت أن ظاهرة الترابط بين العلم والتكنولوجيا اكتسبت فى حالة العلم الحديث أبعادًا نوعية جديدة، بحيث بات من الصعب فعلًا تمييز الحدود الدقيقة التى تفصل بينهما. ويمكننا أن نشير هنا إلى مظهرين أساسيين يعبران فى تكاملهما عن طبيعة التأثير المتبادل الذى يحكم العلم النظرى والتطورات التكنولوجية. من جهة أولى يُلاحظ أن تقدم العلم النظرى نفسه أصبح فى العصر الحديث متوقفًا إلى حد بعيد على ما يتحقق من تقدم فى حقل التطور التكنولوجي، وأن إنجازات العلم تمر عبر إنجازات التكنولوجيا، حيث تقوم التكنولوجيا بتزويد العلم بالأجهزة والآلات التى باتت تتحكم بتحديد سقف إمكانات التقدم ضمن هذا الفرع العلمى أو ذاك. لقد أصبحت التكنولوجيا فى عصرنا الحاضر متقدمة إلى حد مذهل بفضل ارتكازها على أساس من البحث العلمي، كذلك أحرز العلم قدرًا كبيرًا من نجاحه السريع بفضل مساندة التكنولوجيا: إذ إن التكنولوجيا هى التى تعطيه أجهزة أدق، وأدوات أفضل للبحث، وطرقًا أكثر فعالية لاختزان المعلومات واستعادتها بسرعة فائقة. وباختصار، فإن هذا الامتزاج والتأثير المتبادل بين العلم والتكنولوجيا أدى إلى صعوبة ترسيم حدود فاصلة بينهما.
والواقع أن هذه الظاهرة نفسها لا تخلو من دلالة ذات مغزى تلقى بظلالها على مدى موضوعية العلم، فموقف الخضوع الذى يجد العلم النظرى نفسه مضطرًا لاتخاذه بالنسبة إلى الدرجة التى وصل إليها مستوى التطور التقنى يدلل بحد ذاته على أن للموقف العلمى جذورًا تمتد إلى خارج ساحة النشاط النظرى الخالص التى يقيمها لنفسه. وتزداد هذه الدلالة وضوحًا عندما نأخذ فى اعتبارنا الصلات التى تُقرب بين مستوى التطور التكنولوجى ذاته وبين أبرز العناصر الفاعلة فى تحقيق النمو الاجتماعى العام. حيث يمكننا أن نجد فى خضوع العلم لمستوى التطور التكنولوجى خضوعًا فى العمق لشروط يمليها مستوى التطور الاجتماعى ذاته. 
أما المظهر الثانى الذى يميز علاقة الترابط بين العلم النظرى والتطبيقات التكنولوجية فى العصر الحديث، فإنه يتجلى فى ظاهرة ضيق المسافة الزمنية التى كانت تفصل فى الماضى بين ظهور الاكتشاف العلمى وبين دخوله حيز التطبيق التقني. فالأمر اللافت للنظر فى عصرنا الحالى هو أن البحوث الأساسية التى لها طبيعة نظرية خالصة، تتحول فى أقصر وقت إلى تطبيقات إنتاجية. فالمسافة الزمنية بين ظهور البحث النظرى واكتشاف تطبيقاته العملية قد قلت إلى أبعد حد فى عصرنا الحالي. وقد أجرى بعض العلماء مقارنة بين الفترات الزمنية التى كان يستغرقها الوصول من الكشف العلمى النظرى إلى التطبيق فى ميدان الإنتاج، منذ عصر الثورة الصناعية حتى اليوم، فتبين لهم ما يلي: «احتاج الإنسان إلى 112 سنة (أى من عام 1727 إلى 1839) لتطبيق المبدأ النظرى الذى يُبنى عليه التصوير الفوتوغرافى، وإلى 56 سنة (أى من 1820 حتى 1876) لكى يتوصل من النظريات العلمية الخالصة إلى اختراع التليفون، وإلى 35 سنة (من 1867 إلى 1902) لظهور الاتصال اللاسلكي، وإلى 15 سنة (من 1925 إلى 1940) للرادار، و12 سنة (من 1922 إلى 1934) للتليفزيون، و6 سنوات (من 1939 حتى 1945) للقنبلة الذرية، وخمس سنوات (1948 - 1953) للترانزستور، وثلاث سنوات (1959 - 1961) لإنتاج الدوائر المتكاملة» (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، عالم المعرفة - العدد الثالث، الكويت، 1978، ص ص 184 – 185).
ومن المؤكد أن طول أو قصر المدة الزمنية التى يحتاج إليها الانتقال من الأساس النظرى لكشف معين على ظهور الاختراع الفعلي، يتوقف على عوامل متعددة: من بينها مدى الحاجة الاجتماعية إلى هذا الاختراع، ومقدار الوقت والجهد والمال الذى يُبَذل من أجل التوصل إليه. فمشروع إنتاج القنبلة الذرية، مثلًا كان مشروعًا حيويًا خلال فترة حرب قاسية، بل كان مسألة حياة أو موت، وكان يمثل سباقًا رهيبًا مع الزمن حتى لا يظهر هذا السلاح الفتاك عند النازيين، فيصبح أداة لتحقيق أحلام ديكتاتور مجنون مثل هتلر، ومن هنا كُرِّست له موارد أغنى دول العالَم، وأعُطِيًت له أولوية مطلقة على ما عداه من المشروعات، وتفرغ له أعظم علماء الفيزياء فى القرن العشرين. ولكن من الصحيح، رغم هذا كله، أن الشقة تضيق تدريجيًا بين العلم النظرى والتكنولوجيا التطبيقية كلما اقتربنا من العصر الحاضر. ومنذ بدأ العلم، كانت الحرب هى أقوى حافز للتقدم التقني. (المرجع السابق، ص 185). 
وعلى أية حال، فإن ما يهمنا من هذا كله هو أن العصر الحالى يشهد تداخلًا وثيقًا بين العلم والتكنولوجيا، زالت معه الحواجز الزمنية التى كانت تفصل بينهما فى الماضي، وظهرت فى ظله أنواع جديدة من البحوث العلمية التى تجمع بين الأسس النظرية والجوانب التطبيقية فى آن واحد. ونتيجة هذا هى أن العلم أصبح هو الأساس المؤكد لكل تحول تقني، وأن ما كان يقوم به الصانع المخترع أصبح يقوم به الآن عالِم تطبيقى متخصص.