الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم والأيديولوجيا (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن «الأيديولوجية» موجودة بقدر أو بآخر فى كل العلوم بما فيها العلوم الطبيعية، فكل العلوم تعالج مصالح الناس بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كل ما هنالك أنها تكون مباشرة وواضحة أكثر فى مجال «الدراسات الإنسانية». لقد أصبح العلم ذا طابع اجتماعي، ونعنى بذلك الدلالة الاجتماعية للعلم ولمسئولية العلماء، كما نعنى به حجم منتجات العلم ونفقاته من الموارد المادية والبشرية مما يضاعف من تبعية العلم للمجتمع. 
«الأيديولوجية» مصطلح حديث نسبيًا ابتكره فى مايو 1796 لأول مرة المفكر الفرنسى «ديتوت دى تراسي» Destutt de Tracy (1754- 1836)؛ وذلك فى محاولة للدلالة على ما أسماه «علم الأفكار» Science of ideas تمييزًا له عن الميتافيزيقا. ثم لم يلبث المصطلح أن تغير معناه قليلًا، بحيث صار يُطْلَق على مجموعة الأفكار والمعتقدات، التى يبثها مجتمع ما، فى نفوس أفراده، لترسم لهم أفضل الطرق، التى يسلكونها فى حياتهم العملية والنظرية، ليحققوا للمجتمع أهدافه؛ ومعنى ذلك أن المسئولين عن إدارة شئون أى مجتمع يحددون لأعضاء ذلك المجتمع، الإطار الفكري، وبخاصةٍ فيما يتعلق بالأمور السياسية، وهو الإطار الذى لا يجوز لأحد أن يخرج على حدوده، وأن له كل الحرية فى أن يفكر كيف شاء، داخل حدود ذلك الإطار. 
وجاء «ماركس» و«إنجلز»، فاستخدما كلمة «الأيديولوجيا» بمعنى ينحرف انحرافًا يسيرًا عن المعنى السابق؛ إذ هو عندهما لا يعنى مجموعة الأفكار والمعتقدات التى يضعها مجتمع ما لأعضائه، بل يعنى فقط مجموعة الأفكار القائمة على أوهام، لا على حقائق الواقع. وقد كانت المجتمعات- فى رأيهما- تتعمد أن تبث فى نفوس الناس، مثل تلك الأفكار التى لا تُقَام على واقع، حتى تتحدد لهم بهذا رؤية خاصة بهم لما يجرى فى العالَم الخارجي. وكان المقابل لكلمة «الأيديولوجيا»- مأخوذة بهذا المعنى- عند «ماركس» و«إنجلز»، هو النظر العلمى للواقع. ومن أقوال «ماركس» فى هذا الصدد، أن «الأيديولوجيا»- بهذا المعنى- هى حالة الوعي، التى تكون عند الناس، بالنسبة إلى الظروف التى يعيشون فيها، بحيث تظهر لهم تلك الظروف مقلوبة رأسًا على عقب، كما يحدث لصور الأشياء فى آلات التصوير؛ وواضح من ذلك، أن «ماركس» ينفى أن تكون نظريته أيديولوجيا. (د. زكى نجيب محمود، الأيديولوجيا ومكانها من الحياة الثقافية، مجلة فصول، المجلد الخامس، العدد الرابع، 1985، ص 27). 
ثم اتخذ المصطلح معنى واسعًا بعد ذلك، بحيث أصبح معناه: الفكرة التى تستبد بصاحبها، ويحاول أن يفسر بها الوجود كله، والنظم الاجتماعية كلها؛ وبناء على ذلك، يكون الوجود كله، كأنما هو كتلة واحدة متماسكة، مشتملة على كل أجزائها، بحيث لا تستطيع أن تتناول جزءًا بالتغيير، إلا ويتغير النظام كله؛ وأصحاب هذه النزعة يتخذون حيال أفكارهم المستبدة بعقولهم، وقفة مغلقة، فإما أن تقبلها كلها، وتقبل النظام الذى يترتب عليها كله، وإما أن ترفضها كلها وترفض أيضًا النظام الذى يترتب عليها، أى أنهم لا يسمحون بالنقد الجزئي، الذى يحاول أن يصلح جزءًا دون جزء آخر، أو فكرة من البناء الشامل دون فكرة. 
إن لفظ «الأيديولوجيا» يُطْلَق بمعنيين: أحدهما مذموم والآخر مقبول. فالمعنى المذموم تكون «الأيديولوجيا» فيه هى آراء الخصم الظاهرية، التى تخفى الطبيعة الحقيقية لموقفه، والتى ليس من صالح ذلك الخصم الكشف عنها. وبالمعنى المقبول يقال إن أيديولوجية عصر أو طبقة؛ ما هى إلا خصائص الذهن وبنيته فى ذلك العصر أو فى تلك الطبقة. ويظهر هذان المعنيان معًا فى الفلسفة الماركسية، التى يرجع إليها إذاعة شهرة لفظ «الأيديولوجيا»: فترى «ماركس» يتحدث عن «الأيديولوجيا» على أنها تمثل مواقف الناس كما لو كانت فى صورة مقلوبة، ويضع «الأيديولوجيا» مقابل التفكير العلمى الأصيل، وينظر إلى مذهبه ذاته على أنه تجاوز للأيديولوجيا وكشف لخداعها، وبهذا المعنى يتحدث عن «الأيديولوجية الألمانية» بوصفها مذهبًا فكريًا لفلاسفة خضعوا لمؤثرات لم يشعروا بها، على حين أن فلسفته هو لم تكن فى نظره «أيديولوجيا»، بمعنى أنه لابد أن يعكس ظروف طبقة معينة. وهكذا اختفى التقابل القديم بين «الأيديولوجيا» وبين التفكير العلمي، وأصبحنا نجد مفكرًا ماركسيًا مثل «جورج بوليتزر» Politzer، G. (1903- 1942) يصف «الأيديولوجيا» بأنها «مجموعة من الأفكار تُكِّون كلًا أو نظرية أو مذهبًا أو حالة ذهنية فقط فى بعض الأحيان»، ويعترف بأن المذهب الماركسى ذاته له أيديولوجيته التى تعكس تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة فى الطبقة العاملة. (د. فؤاد زكريا، تقديمه للترجمة العربية التى قام بها لكتاب أيكن (هنرى د.)، عصر الأيديولوجية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1962، ص 7). 
ويرفض الدكتور فؤاد زكريا ترجمة اللفظ الأجنبى ideology بـ «العقائدية»، بل يفضل ترجمته إلى «أيديولوجية» مبررًا ذلك بقوله: «إن لفظ «أيديولوجية» ينطوى على معانى معقدة لا يمكن أن يعبر عنها لفظ «العقائدية» بأية حال. وإذا كان هذا الأخير يمكن- تجاوزًا- أن يُعَد تعبيرًا عن الناحية التى يُعَد فيها اللفظ دالًا على مجموعة من الأفكار والمواقف الأساسية للإنسان، فإنه لا يمكن أن يُعَد معبرًا عن الوجه الآخر الذى يُعَد فيه اللفظ دالًا على «انعكاس» لأوضاع وظروف تؤثر فى الفكر الظاهرى وتكون أهم وأسبق منه. وهكذا يستحق اللفظ»- كما يقول د. فؤاد زكريا- «أن يدخل على اللغة العربية بصورته الأجنبية دون تغيير». (د. فؤاد زكريا، المرجع السابق، ص 8).
المهم فى هذا كله، أن مفهوم الأيديولوجيا له تاريخ طويل فى الفكر الماركسى يتراوح بين المعانى المستهجنة والمعانى التى يمكن أن نسميها «محايدة»، كما يجب أن نلاحظ أن دلالاته الماركسية المختلفة قد تناولها المفكرون غير الماركسيين بالنقد والتحليل المرة تلو المرة، حتى أصبحت هذه الكلمة بمثابة مفهوم غير محدّد المعالم؛ مثله فى ذلك مثل تلك المفاهيم «المُلَغَّمة» فى وقتنا هذا؛ من «سلام»، و«ثورة فكرية»، و«ديموقراطية»، و«إسلام سياسي»، و«إرهاب»، وما إلى ذلك. فالماركسية ترى أن الأيديولوجيات كلها طبقية، وبالتالى فهى قناع يخفى حقيقة الاستغلال الطبقى؛ فكل أيديولوجية هى تبرير لاستغلال طبقة لأخرى، أو لاستمرار طبقة فى وضعها السائد.