الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم بين الحياد والتحيُّز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إننا نصف الشخص الموضوعى بأنه محايد، ونعنى بذلك أنه لا ينحاز مقدمًا إلى طرف من أطراف النزاع الفكرى أو الخلاف العلمي. فالعالِم ينبغى أن يقف على الحياد، بمعنى أن يعطى كل رأى من الآراء المتعارضة حقه الكامل فى التعبير عن نفسه، ويزن كل الحجج التى تقال بميزان يخلو من الغرض أو التحيُّز. فالموضوعات التى يعالجها، والأفكار التى تُـقَدم إليه، تقف كلها أمامه على قدم المساواة، دون أية محاولة مسبقة من جانبه لتفضيل إحداها على الأخرى، هكذا يرى المـدافعون عن موضوعية العلم والعلماء. كما يعتقد هذا الفريق أيضًا أنه عندما ينحاز العالِم آخر الأمر، فلابد أن يكون انحيازه هذا مبنيًا على تقدير موضوعى بحت لإيجابيات الحجج وسلبياتها. والعالِم محايد بمعنى أنه يترك تفضيلاته الذاتية جانبًا، إذ إننا لا نستطيع بغير شك، أن نتصور عالِم نبات يهتم فى أبحاثه بزهرة معينة لمجرد كونه يحبها، أو عالِم حيوان يهمل نوعًا حيوانيًا معينًا لمجرد أنه لا يطيق شكله. 
والواقع أن اتجاه العلم الحديث كله، منذ أيام ديكارت، يوحى بهذا الرأي، إذ إن التفسير الآلى للطبيعة وللكون قد أخذ يزداد قوة، وأصبح العلم يقف على الطرف المقابل للقيم البشرية، ويؤكد استقلاله التام عنها. وأصبحت الروح الموضوعية ذاتها تعنى ترك القيم والمشاعر والأمانى البشرية جانبًا. وصار المثل الأعلى للمعرفة العلمية هو العلم الرياضي، الذى أخذ يغزو على الدوام ميدانًا بعد الآخر من ميادين المعرفة، حتى أصبح للرياضيات اليوم دور أساسى فى العلوم الإنسانية ذاتها. وقد بالغ المذهب الوضعى فى تأكيد حياد العلم، إلى حد أنه جعل للعلم وللقيم ميدانين مستقلين بينهما هوة لا تُعبر، وأكد أن القيم، من حيث هى تعبير عن أمانٍ ورغبات إنسانية، لا شأن لها بعملية وصف الأمور الواقعية، التى يأخذها العلم على عاتقه. لأن القيم تنتمى إلى ميدان خارج عن نطاق اهتمام العلم، أى أنها «قيم معيارية» normative values، على حين أن مهمة العلم تقريرية ووصفية descriptive فحسب.
غير أن هناك مَنْ ينكر على العلم حياده من حيث إنه معرفة، والمعرفة كأى كائن اجتماعى هى نظام متطور، هى كائن تاريخي. والعلم أيًا كان موضوعه نظام للمعرفة لا ينفصل عن النظام الاجتماعى الذى يتطور بداخله. ومن هنا فإن الحقيقة العلمية أيًا كان موضوعها ليست حقيقة مجردة على الإطلاق، بل هى تقوم على افتراضات متغيرة ومعلومات متجددة. ورغم اتصاف أساليب البحث فى العلوم الطبيعية بالدقة والإحكام، ورغم سعيها المستمر لتمثيل الطبيعة المعقدة، ومحاولة فهم تحولاتها وعملياتها، فإنها مع ذلك محدودة القدرات، ومعرضة للنقص والنسبية والتحيُّز. 
العلم فى حقيقته نشاط اجتماعى موجه يسعى لإنشاء وإنتاج نسق خاص من المعانى والرموز، يزعم أصحابه من المتخصصين بأنه يتميز بمستوى وجودى (أُنطولوجي) Ontological معين، يرقى عن مستوى حقائق الحياة اليومية التى ينشئها العامة من غير المتخصصين. ويحاول «رجال العلم» التوصل إلى هذا المستوى «الأُنطولوجي» المتميز الذى يحقق لهم مستوى أعلى وأرقى من «الحقيقة»، من خلال إلزام أنفسهم بممارسة انضباط منهجى صارم، يقوم على التقيد بمواصفات المنهج العلمى التجريبى وحرفيته، مع الالتزام بشخصية العالِم الموضوعى «المحايد»، الذى يفصل بين عواطفه الشخصية وبين دوره البحثى والعلمي، والذى يمارس دور الملاحظ «المتجرد»، الذى يحافظ باستمرار على «تعاليه الإكلينيكي» عن موضوعات ملاحظته.
ويذهب بعض الباحثين إلى حد القول بأن هذا الانضباط المنهجى الصارم، وتلك الشخصية العلمية المتجردة، هما مجرد «نماذج مثالية» توجد فى كتب مناهج البحث، ولكن يتعذر وجودها فى واقع الممارسات الفعلية للبحث العلمى (لاسيما البحوث الاجتماعية). فالباحث مهما زعم بأنه محايد وموضوعي، لا يمكن أن ينكر أنه كإنسان مفكر يملك عالمًا خاصًا من المعانى والرموز، أو يملك نسقًا خاصًا ينشئ داخله حقيقته الخاصة التى تتضمن وتستند إلى تحيزاته الفكرية والشخصية الممّيزة، والتى تجعله يرى العالـم الخارجى بعيون غير محايدة أو بعيون مصبوغة بتلك التحيُّزات الخاصة. فالباحث لا يستطيع أن يزعم أنه يستقبل الواقع على شاشة بيضاء نقية مستعدة لاستقبال كل ما يصل إليها من معلومات حسية بموضوعية وانضباط «عداد جيجر» الذى يقيس شدة الإشعاع الساقط عليه.
إن التحيُّز مرتبط ببنية عقل الإنسان ذاتها، الذى لا يسجل تفاصيل الواقع كالآلة الصماء بأمانة بالغة ودون اختيار أو إبداع، فهو ليس سلبيًا وإنما فعَّال، ولذا فهو يدرك الواقع من خلال نموذج، فيستبعد بعض التفاصيل، ويبقى بعضها الآخر، ويضخم بعض ما يتبقى ويمنحه مركزية، ويهمش الباقي. والعملية الإدراكية هذه ليست عشوائية، وإنما تتبع أنماطًا يمكن اكتشاف بعض جوانبها.
التحيُّز لصيق باللغة الإنسانية نفسها، فلا توجد لغة إنسانية واحدة تحتوى على كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته، أى أنه لابد من الاختيار. كما ثبت أن كل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية، وأكثر كفاءة فى التعبير عنها. وهذا يعنى أن اللغة الإنسانية ليست أداة محايدة، فهى أداة ثرية مركبة تحوى داخلها الكثير من الأسرار.
غير أن المدافعين عن حياد العلم يرون أن العلم ما هو إلا أداة تتيح للإنسان أن يفهم العالم المحيط به، وأن يفهم نفسه، على نحو أفضل، ومن ثمَّ فهو يزيد من قدرته على السيطرة على العالم الخارجى، وعلى عالمه الداخلى الخاص. ولكن هذه القدرة «محايدة» بمعنى أنها لا تعدو أن تكون طاقة أكبر، قابلة لأن تتشكل فى اتجاه الخير أو الشر. وهذه الطاقة قد تكون عقلية، تتمثل فى فهم أفضل للظواهر، أو مادية، تتمثل فى مزيد من السيطرة على هذه الظواهر وتسخيرها لأغراض قد تكون متجهة إلى تحقيق السعادة والرخاء للبشر، وقد تتجه إلى إرضاء نزوات حاكم مستبد، أو تحقيق مصالح فئة جشعة، أو ضمان التفوق لشعب مغتصب.