أبيات رائعة ظلت محفورة فى الذاكرة من مسرحية عبدالرحمن الشرقاوى «الحسين ثائرا» عن قداسة ومكانة الكلمة.. هى طاقة النور التى تستحوذ على إعجاب الجميع، لكن شُعاعها - للأسف - أصبح لا يتعمق إلى درجة الإيمان الحقيقى بمعانى أبيات المسرحية عن الكلمة. فى إطار كل الآراء التى طُرحت حول أزمة الصحافة الورقية، تبدو اللحظة مناسبة لاستعادة أبيات الشرقاوى كعامل أساسى فى هذا الملف، الهيئة الوطنية للصحافة برئاسة الأستاذ كرم جبر، تبذل جهودا ملموسة للخروج بالمهنة من ظروف صعبة، سواء كانت مادية أو نتيجة لثورة تكنولوجيا المعلومات، ذلك على صعيد صناعة المهنة وتطوير مستوى الأداء، عن طريق فتح حالة حوار بين القائمين على مجالس إدارات الصُحف بمختلف اتجاهاتها.
الحقيقة الثابتة عبر التاريخ المعاصر أن أى تطور يمس مهنة الصحافة يفرض على العاملين بها مواجهة التحدى للحفاظ على ما تبقى من عرش «صاحبة الجلالة». تفوق المواقع الإخبارية بفضل عامل السرعة فى نشر الخبر ونقل المعلومة، وضع جميع العاملين فى المهنة بالإضافة إلى كُتاب الرأى الذين تستضيفهم الصحف أمام تحد جديد لا يحتمل النهج التقليدى السائد حاليا. النسبة الأعلى من الفئة التى ما زالت تحرص على شراء الصُحف الورقية تفعل ذلك من أجل مقالات الرأى.. هى بمثابة لقاء أو حوار بين الكاتب والقارئ، أو -كما علمنا الأستاذ صلاح حافظ - صراع ثنائى بين فكرين يسعى خلاله الكاتب إلى إقناع المتلقى بوجهة نظره اعتمادا على الحقائق والدلائل والمنطق.
صعوبة التحدى تزداد يوميا فى جذب القارئ إلى حوار حول قضايا تمس اهتماماته.. تستفزه للمشاركة فى قضايا اجتماعية، اقتصادية أو سياسية- على الصعيدين الداخلى والخارجى- خصوصا مع توافر وسائل إعلام إلكترونية تنقل الحدث مصحوبا بميزة اللقطات المصورة، لتتفوق بذلك على قراءة كلمات على ورق. الأخطاء القاتلة التى يخشى المعنيين حقا بالمهنة من وقوع البعض فيها، لمواكبة تطور وسائل نقل المعلومة، ما قد يدفعهم للوقوع فى فخ السباق المحموم بين المواقع على سرعة النشر قبل تحرى حقيقة الخبر، بالتالى الإسهام فى حرب شائعات لجأت إليها أطراف بلغ بها اليأس مداه، بعد أن حرقت كل أوراقها. من جهة أخرى، تسلل نبرة التعالى والشخصنة بين بعض الكتاب فى المساحات المتاحة لطرح أوجه النظر، بالتأكيد يُثير نفور القارئ- حتى وإن كان من هواة قراءة الصحف الورقية- حين يتولد داخله انطباع أن الكاتب يحاوره من برج عاجى بدلا من استلهام أفكاره عبر التواصل مع مختلف أطياف الناس ورصد ما يهم الشأن العام.
الصحافة الورقية لن تنجح فى مواكبة برامج التليفزيون الإخبارية، ولا المواقع الصحفية المختلفة، إلا عن طريق صيغ مهنية تُضفى على الخبر تفاصيل شيقة من بين كواليس الحدث قادرة على إعادة اهتمام القارئ، وآراء تعرض تشخيصًا واقعيًا لما يدور حوله من قضايا قد يمتد تأثيرها على أولويات القارئ حتى وإن جرت بعيدا عن محيطه الجغرافى. المثل الإنجليزى «الشيطان يكمن فى التفاصيل» قد يتسق مع حالات وظروف عديدة.. إلا أن القفزة التكنولوجية الهائلة بعدما أقصت الصحافة الورقية كمصدر وحيد للخبر، فرضت عليها من أجل البقاء تغيير الصورة الذهنية عن تراجع مكانة «صاحبة الجلالة» ونسف كل الأنماط التقليدية سواء فى صياغة الخبر، أو تنمية مهارات البحث عن التفاصيل الشيقة بين كواليسه، أو طبيعة الأداء المهنى، خصوصا أن ثورة تكنولوجيا المعلومات غيرت المعادلة، حيث أصبح على الصحفى والكاتب الوصول إلى القارئ بعد أن كان الثانى يذهب بنفسه إلى الصُحف الورقية.
أزمة المهنة لا يقتصر ارتباطها بثورة تكنولوجيا المعلومات فقط، هناك جانب كبير يتحمل تبعاته العنصر البشرى الذى ما زال يبدو متكاسلا، رغم تفاقم الأزمة، تجاه إعادة تأهيل صيغ المهارات الإعلامية لبعض المنتمين للمهنة.. إذ مقابل تعبير يردده البعض عن «الصحافة مهنة من لا مهنة له» نتيجة تكدس العاملين فى المؤسسات الصحفية أو تدنى المستوى المهنى.. كل الخوف أن تتحول مهنة البحث عن المتاعب أو الحقائق إلى أكثر المهن الطاردة، والتى تدفع أبنائها إلى هجرها بعدما كانت الحلم المثالى الذى داعب طموحات كل من سعى للانتماء إليها. أخيرا.. الاعتراف بأن «سحر الإنترنت» ودوره الرئيسى فى نقل الحدث، سرق الكثير من سحر الكلمة، بالإضافة إلى اعتماد الصُحف الرسمية والخاصة، على نمط صياغة مكرر فى تحرير الخبر، حيث اختفت اللمسات المهنية الخاصة، والتى كانت تُميّز كل صحيفة عن الأخرى.. لا ينفى حقيقة أن الإنترنت هو سوق لا حدود له يعرض بضائع فاسدة وثمينة.. هذا الفضاء الرحب أو السوق يبقى مصدرا غير مضمون لتحرى حقيقة المعلومة لما يحتويه أيضا من الأخبار الكاذبة والملفقة.