تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أعادت حادثة السفينة الإنسانية «إكواريوس»، التى حملت 630 مهاجرا، نزيف جُرح تجاوزت تداعياته المؤلمة حدود المنطقة العربية، ليخلق حالة توتر شديدة فى قضية الهجرة إلى أوروبا، حيث تضافرت التناحرات السياسية بين أحزاب اليمين واليسار فى معارك الانتخابات مع الأزمات الداخلية لهذه الدول، على رأسها الشق الاقتصادى والبطالة، لتعيد صياغة خطاب المبادئ والقيم الإنسانية عن قبول «الآخر» الذى طالما تفاخرت أوروبا بتصديره إلى العالم. هذا التباين فى السياسات من المنتظر أن يشكل التحدى الثانى أمام تماسك الاتحاد الأوروبى الذى لم ينتهى بعد من آثار ضربة «البريكست» الموجعة، أو خروج بريطانيا من الاتحاد نظرا للقوة الكبيرة التى كانت تملكها اقتصاديا وسياسيا داخل هذه المنظمة.
رفض وزير داخلية إيطاليا - زعيم حزب«رابطة الشمال» اليمينى المتطرف- استقبال السفينة تزامنا مع تصريحات وزير داخلية المانيا -زعيم حزب الاتحاد المسيحى- منع المهاجرين المحظور دخولهم ألمانيا عبور الحدود، يُظهِر التباين بين السياسات السابقة للاتحاد الأوروبى من جهة، والخطاب السائد عن مواقف الدول الأعضاء من جهة أخرى. إشكالية التغيير الاجتماعى الذى يحمله «الآخر» بكل معالمها، ساهمت فى ازدياد مساحة العنصرية والنزعات القومية مع تفشى دعاوى الصدام الحضارى نتيجة الاختلاف فى العادات والقيم. العامل الاقتصادى أيضا احتل دوره فى الدول الثلاث الرئيسية المستقبلة للمهاجرين «فرنسا - ألمانيا - إيطاليا»، نتيجة الربط بين توافد المهاجرين وازدياد حدة الأزمات الاقتصادية كالبطالة والمزاحمة على فرص العمل وارتفاع الأسعار.
صعود أحزاب اليمين بسياساتها المتحفظة تجاه قبول المهاجرين وتعزيز ربط العلاقة بين ظاهرتى الإرهاب والهجرة باعتبارها أحد العوامل المفترضة لازدياد التهديدات الإرهابية فى دول أوروبا، حتى أصبحت الإشكالية التى تنقسم أبحاث مراكز الدراسات الأوروبية حولها، هل المهاجرون إرهابيون.. أم الإرهابيون مهاجرون؟ بالإضافة إلى استغلال «داعش» وغيرها من التنظيمات الإرهابية -بالتعاون مع تُجارسفن الموت- موجات الهجرة، سواء الشرعية أو غير الشرعية، كوسيلة لعودة مقاتليها الأجانب ضمن المهاجرين إلى بلادهم فى أوروبا.
ملف الهجرة الذى عاد يفرض نفسه على الاهتمام الدولى، أحدث شرخا يُهدد تضامن دول الاتحاد الأوروبى ويُعزز مخاوف التفكك أمام عجز المنظمة عن مواجهة هذه الأزمة، وتزايد نفوذ الأحزاب المناهضة للهجرة بين الكثير من الدول المؤثرة داخل الاتحاد، وهو ما دعا المنظمة إلى إصدار بيان يتبنى بنودا أكثر حسما وتشددا تجاه هذه القضية الإنسانية، وتوفير مسارات محددة للهجرة الشرعية لتقليص أعداد طالبى اللجوء. أزمة السفينة «إكواريوس» لم تقتصر على كشف حجم الانقسام الأوروبى ومساحة نفوذ أحزاب اليمين.. إذ أظهر دخول الرئيس الأمريكى ترامب على خط الأزمة تباين شديد بين توجه قادة بعض دول أوروبا وسياسات ترامب المتشددة.. تصاعدت حدة تغريداته الأخيرة التى تنتقد بحدة دول أوروبا حول «الخطأ الكبير الذى ارتكبته هذه الدول بسماحها دخول أشخاص قاموا بتغيير ثقافتهم بصورة عنيفة»، ثم التصريحات المتبادلة مع مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل، حول ازدياد معدل الجريمة فى ألمانيا نتيجة سياساتها تجاه المهاجرين. «ميركل»، فى محاولة لإنقاذ تحالفها الحاكم من الانهيار، سارعت إلى تشكيل تحالف مع فرنسا ثم اللجوء إلى الاتحاد الأوروبى رغم أجواء الانقسامات الدائرة بين الدول الأعضاء حول مبدأ تقديم المصلحة الوطنية على حساب المصلحة الأوروبية.
الرئيس الفرنسى «ماكرون» طرح بدوره مؤخرا مقترحا يسعى لتجميع موافقة دول الاتحاد عليه، رغم أنه لا يعتبر واقعيا حل جذرى بقدر ما هو محاولة للتخلص من «صُداع» الأزمة.. إنشاء مراكز لاستقبال واحتواء المهاجرين فى دول «تونس، الجزائر، المغرب، ليبيا»، هو مجرد تحميل هذه الدول تبعات ملف الهجرة، فى إطار مساومات اقتصادية معها، رغم سلسلة الانتقادات التى طالت هذه المجموعة من أوروبا، حول التعامل مع المهاجرين، دون أن تحاول دول أوروبا ممارسة النقد الذاتى، خصوصا وأن أغلبها يتحمل - باعتراف مسئوليهم - التحالف سياسيا وعسكريا مع التدخلات الأمريكية الكارثية التى أحالت عدد من دول المنطقة العربية والأفريقية إلى بلاد غير مستقرة أشبه بالجحيم، وفق أهداف سياسية ومصالح اقتصادية حركت هذه التدخلات، والتى أشعلت الاضطرابات والحروب الأهلية.. والأخطر خلقت المناخ المثالى لظهور مئات التنظيمات الإرهابية.
سواء كانت قضية الهجرة أزمة عابرة أو عاصفة تهدد بتفكك الاتحاد الأوروبى.. من المؤكد هى تشكل تحد كبير من المتوقع تصاعد وتيرته مع تنامى المساحة السياسية التى تكتسبها تيارات اليمين العنصرية، من جانبها، تكتفى الأحزاب المدافعة عن احتواء اللاجئين برفع الشعارات الإنسانية البراقة علنا.. بينما تعقد بينها الاتفاقات والترتيبات على إلقاء «كرة» الأزمة فى ملعب الدول المضطربة، إما اقتصاديا أو أمنيا، والتى تنطلق منها سفن الموت.