إدارة السياسة الأمريكية، وفق قاموس رجل المال دونالد ترامب، وضعتها الفترة الماضية أمام مفترق طرق.. نقلتها من أبجديات ودهاليز السياسة إلى لغة الصفقات والابتزاز التى تُصدِّر للعالم قرارات تزيد من أجواء الاحتقان السائدة سواء على الصعيد السياسى أو الاقتصادى، بعد التحدى السافر لكل اتفاقات ومطالبات المجتمع الدولى، إثر قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، يُنفذ ترامب وعده الانتخابى الثانى فيما يتعلق بسياسة امريكا الخارجية بإعلان خروج أمريكا من الاتفاق النووى مع إيران (5+1).
رجل «الصفقات» لم يختر التوقيت عشوائيا.. إيران حاليا- رغم كل مساعى التمدد والاستحواذ على مساحات ضمن صراعات النفوذ الدائرة فى المنطقة- تقع تحت ضغوط أزمات اقتصادية أدت إلى ارتفاع نسب التضخم والبطالة، بالإضافة إلى التجاذب المكتوم بين التيار «المعتدل» بقيادة الرئيس حسن روحانى، وسيطرة التيار المتشدد أو المحافظ الذى تمثله مؤسسات وقادة الحرس الثورى الإيرانى. صيغة رد الفعل الصادر عن إيران بعد لحظات من إعلان انسحاب أمريكا من الاتفاق النووى، أظهرت هذا الانقسام فى خطاب «روحانى» بين دعوة المجتمع الدولى إلى الالتزام القانونى بالاتفاقية، وعزم إيران مخاطبة اللجنة المشتركة المشكلة من نواب وزراء خارجية دول الاتفاقية ونواب من الاتحاد الأوروبى، رغم كون قرارات هذه اللجنة غير ملزمة، وإعلان إيران الفورى عن استئناف أنشطتها فى تخصيب اليورانيوم.
الإدارة السياسية الأمريكية الحالية غير راغبة بالدخول فى مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران وفق ما تقتضيه الدواعى الأمنية والسياسية حال نشوب صراع بين دولتين.. حسابات الصفقات ستدفع أمريكا نحو مسارات تكثيف الضغوط والتنسيق مع أطراف لتوجيه ضربات سريعة إلى مختلف مناطق المصالح الإيرانية، وهو ما حدث فعلا بعد ساعات من إعطاء أمريكا الضوء الأخضر لإسرائيل التى تلقت الرسالة سريعا عبر توجيه ضربات جوية على نقاط عسكرية إيرانية فى سوريا، ومناطق تمركز قوات حزب الله. استثمار هذه الفرصة غالبا سيمتد الفترة المقبلة إلى قيام إسرائيل بمزيد من الضربات على مواقع التخصيب فى إيران، خصوصا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى نتانياهو فى أشد الحاجة إلى خطوة دعم شعبى فى مواجهة أزماته المحلية داخل إسرائيل بعد تورطه فى قضايا قانونية تتعلق بالفساد.
إدارة العالم بقواعد «شركات العقارات الضخمة» لن يضع فى الاعتبار عدة تداعيات هامة سيفرضها هذا القرار، عالم «الصفقات التجارية» الذى يستحوذ على رؤية ترامب، حتى سياسيا، لا يعترف بفكرة وضع مصداقية أمريكا على المحك مستقبلا، على صعيد المقاطعة الاقتصادية، زيارات الاتفاقات والصفقات العسكرية والتجارية التى أبرمها ترامب ومسئولى إدارته مع طرفى النزاع «الخليجى - القطرى» تُشكِل البديل المضمون للشركات الأمريكية المرتبطة بعقود مع إيران.. لكن تطبيق شق المقاطعة الاقتصادية، كما طالب ترامب من حلفائه، يبدو بعيدا عن الواقع بالنسبة للدول الأوروبية الرئيسية، «بريطانيا - ألمانيا - فرنسا»، التى تحظى بالنصيب الأكبر من التعاقدات. المؤكد أن ارتباط كبرى شركات هذه الدول بمصالح مختلفة فى إيران هو دافع بيانات التحفظ الصادرة عنها تعقيبا على قرار ترامب وتمسكها بالاتفاقية كمبدأ مع إجراء التعديلات والإضافات الضامنة للمزيد من الالتزام الإيرانى ببنودها. التجاهل الأمريكى لكل المساعى الدبلوماسية الأوروبية من شأنه خلق مساحة عزلة بين أمريكا وحلفائها التقليديين بعدما أوجز بيانهم المشترك الموقف الأوروبى محذرا من مخاطر حقيقية تهدد المنطقة نتيجة قرار ترامب.
المنطقة العربية فى نظر الرئيس الأمريكى ليست أكثر من «خزينة أموال» عليها تحمل نفقات كل مخططات القوى الكبرى للمنطقة.. بل هو يذهب أبعد من ذلك حين يضع إيران على رأس قائمة الأعداء المشتركين بين السعودية ودول الخليج وأمريكا، وقد لا يخلو الأمر فى المحادثات غير المعلنة من دفع كل أطراف المنطقة نحو صراع مسلح مع إيران.. فى ذات الوقت، تكمن خطورة ما يحمله قرار ترامب من تخبط وتضارب كونه سيؤدى إلى تنامى سياسة العداء الإيرانى نحو دول المنطقة -تحديدا السعودية والخليج- خصوصا وهى تخوض على حدودها الجنوبية حربا مع ميليشيات تابعة لإيران وتتعرض للهجوم بأسلحة إيرانية.
حرب تكثيف «الضغوط» سواء كانت وسائلها سياسية أو اقتصادية او عسكرية عبر ضربات محدودة تتم بالتنسيق مع طرفى القوى الكبرى (روسيا - أمريكا) تأتى فى توقيت مدروس بعناية.. أولا، حجم السخط الداخلى فى إيران نتيجة الأزمات الاقتصادية.. ثانيا، قطع الطريق أمام توسع مساحة الهيمنة الإيرانية على القرار السياسى فى لبنان بعد المكاسب التى حققها حزب الله -الموالى لإيران- فى الانتخابات الأخيرة، بالإضافة إلى الترتيبات الإيرانية التى سبقت الانتخابات فى العراق، حيث دفعت بمشاركة قادة ما يعرف بالحشد الشعبى التى تضم بين قادة بعض فصائلها من أعلنوا ولاءهم الصريح إلى إيران.. بل مارسوا خلال الانتخابات ضغوطا هائلة لإجبار المهجرين والعائدين إلى مدنهم على انتخاب مرشحيهم.
-------------------------
اقتباس: التجاهل الأمريكى لكل المساعى الدبلوماسية الأوروبية من شأنه خلق مساحة عزلة بين أمريكا وحلفائها التقليديين بعدما أوجز بيانهم المشترك الموقف الأوروبى محذرا من مخاطر حقيقية تهدد المنطقة نتيجة قرار ترامب.