تجرى الانتخابات البرلمانية العراقية يوم 12 مايو فى إطار واقع تراكمت آفاته وأزماته عبر عقود لتنفجر قنابلها الموقوتة تباعا نتيجة الغزو الأمريكى وما تلاه من تفكك وهشاشة سلطة الدولة المركزية. ساد دور العشائر والميليشيات التى أصبحت بمثابة دولة داخل دولة.. بل تجاوز نفوذها السلطات القانونية والدستورية حتى غلب الولاء العام لها على الانتماء للوطن والدولة، وتجذرت فى عمق النسيج والثقافة العراقية. فرضت هذه القوى قوانينها وتقاليدها الخاصة كبديل للدولة التى لا تملك حتى فتح ملف تسليح هذه العشائر والميليشيات الذى يصل إلى امتلاك البعض منها نوعيات أسلحة ثقيلة.
صراخ الغضب المشروع أصبح السمة السائدة فى الشارع العراقى بكل نخبه وطوائفه.. هو يكفر بكل وجوه الكتل السياسية الحالية التى أحالت حياته إلى جحيم من سلسلة المعاناة اليومية.. رغم ذلك هى تتمسك بالبقاء حتى عبر التحايل بإدخال بعض الوجوه الشابة ضمن المرشحين على قوائمهم. الانتخابات القادمة لن تحدث بالقطع بمعزل عن الصراع الإقليمى وصراعات النفوذ الدولي.. ما لا شك فيه أن التصريح الساذج للسفير الأمريكى فى العراق أن أمريكا لن تتدخل فى الانتخابات العراقية! لا يغير حقيقة أن التسوية الأمريكية-الإيرانية ستكون الأساس الذى يتم وفقه تشكيل المشهد السياسى العراقى القادم.
فى هذه الانتخابات، تحتدم المنافسة بين قائمتين، «ائتلاف النصر» بقيادة رئيس الوزراء العراقى حيدر العبادى ويضم حوالى 20 حزبا وتكتلا سياسيا من مختلف الطوائف والأعراق. من المتوقع فوز هذا الائتلاف بالمرتبة الأولى بين القوائم نظرا لاعتبار العبادى الأكثر شعبية، يليه الزعيم الدينى مقتدى الصدر الذى يملك قوة التحشيد الشعبى سواء فى المظاهرات أو توجيه عمليات التصويت. الأمين العام لمنظمة «بدر» هادى العامرى المعروف بموالاته لإيران يقود تحالف «الفتح المبين» الذى يضم مجموعة من قادة فصائل الحشد الشعبى ضمنهم قادة سبق لهم إعلان الولاء إلى مرجعية ولاية الفقيه الإيرانية فقط!.. إيران بدورها تقوم على التقريب بين الائتلاف الثانى و«ائتلاف دولة القانون» بقيادة رئيس الوزراء السابق نورى المالكى بهدف تفكيك وإضعاف تحالف العبادي.. ما يُنذِر بالمزيد من تغلغل النفوذ الإيرانى فى المشهد السياسى إذا ما تم تشكيل تحالف موسع بين ائتلافى العامرى والمالكى يتولى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات.. العبادي، الذى أعلن مباشرة عن تعرضه للتهديد من قبل قادة الحشد الشعبي، يسعى بدوره إلى تدارك هذا المخطط عبر كسب الجانبين الكردى والسنى خلال تفاوضات وحوارات ستتضح ملامحها بعد الانتخابات.
شعارات التغيير والقضاء على الطائفية ومحاربة الفساد التى ترفعها جميع القوى المتنافسة، لا تحمل بالتأكيد أى مصداقية لدى الناخب العراقي.. التغيير لن يحدث بمجرد استبدال هذا الرئيس أو المسئول بغيره، وإنّما بإعادة بناء المنظومة السياسيّة والإداريّة وإعادة الاعتبار للقيم الوطنيّة.. فما بال حين تصدر هذه الوعود البراقة من وجوه يعتبرها الناخب شريكا أساسيا ومتربحا من ممارسة وتغذية هذه الآفات. عبر السنوات الماضية مورست ضغوط شديدة على العبادى نتيجة تحركاته الدبلوماسية من أجل استعادة وتعزيز تاريخ جذور العراق العربية، مقابل تحفز ضد هذه الخطوات من طرف إيران وصقور حزب «الدعوة» الذى ينتمى العبادى إليه والمعروفين بموالاتهم لإيران.. الأمر الذى يجعل التغيير الجذرى للواقع الحالى إشكالية أكبر من جهود العبادى أو أى قوة.. بالإضافة إلى أن محاولة إدخال لاعبين جدد إلى الساحة سيستدعى صراعا ضد نفوذ تلك القوى سواء الإقليمية- إيران- أو الدولية – أمريكا- والمواجهة بالطبع لن تكون متكافئة نتيجة امتلاكهما أغلب أوراق اللعبة. القوى المتجذرة حاليا فى المشهد السياسى أصبحت عبر السنين بمثابة شبكات مستقلة تسخر وسائل سلطاتها من المال والإعلام والسلاح لإبقاء الوضع الحالى بما يخدم مصالحها الشخصية وتربعها على عرش المشهد السياسي.
مجموعة العوائق أمام تحقيق انتصار سياسى يواكب نجاح الانتصار العسكرى الذى أنجزه الجيش فى تطهير مدن العراق من تنظيم داعش، يزيد من نسب الاتجاه إلى مقاطعة الانتخابات مع شعور الناخب أنه أمام نفق بلا نهاية وفقدان ثقة العراقيين بالعملية الانتخابية كونها مجرد إعادة إنتاج وجوه يرفضها، لذا امتنعت نسبة كبيرة عن تحديث سجلاتهم الانتخابية حتى تجاوزت نصف من لهم الحق فى المشاركة، الأمر الذى سيجعل فرصة التغيير وحدوثه ولو بشكل نسبى أكثر ضعفًا.