من حق إدوارد مللر كنائب المدير للسياسات فى مشروع الديمقراطية فى الشرق الأوسط التعبير عن آرائه الخاصة، لكن المثير للدهشة صدور حجم المغالطات من شخص شغل منصبا مرموقا مثل مسئول ملف الشئون المصرية فى مجلس الأمن الوطنى الأمريكي! يستهل مللر مقاله فى جريدة نيويورك تايمز (فى الواقع.. مصر شريك مريع) بتصنيف أى مباحثات مصرية -أمريكية قادمة إنها تقليد فارغ المضمون عفا عليه الزمن نتيجة التباعد بين مصالح كلا الطرفين مقارنة بالماضي، دون تحديد زمنى دقيق للمرحلة التى يشير إليها وهل هى خلال العام الظلامى الذى سُرِقت فيه مصر من قبل (عصابة البنا)؟. ينتقل مللر إلى لهجة تهديد لا تتفق مع تاريخه كباحث سياسى عبر التلويح بورقة المساعدات العسكرية مطالبا بجعل مصر نموذجا للمصير الذى ينتظر باقى الدول المتلقية للمعونات حال عدم خضوعها للشروط الأمريكية.
من هذه المقدمة الإنشائية ينطلق المقال إلى الإشكالية الأكثر إثارة لقلق دوائر صنع القرار الأمريكي.. تنوع مصادر التسليح المصري، وأكثرها إزعاجا لأمريكا الاتفاق المصري-الروسى الذى يمنح حق التعاون المتبادل بين القواعد الجوية لكلا البلدين. منذ الانتصار المصرى فى حرب ٧٣، ثم تراجع الدور الروسى فى المنطقة، حرصت أمريكا على محاصرة استقلالية القرار المصري. فى المقابل المسار السياسى والأمنى الذى انتهجه الرئيس السيسى لكسر هذا الحصار سواء على صعيد التعاون السياسيى أو الأمنى مع جميع الدول- على رأسها روسيا- بعد ما ثبت – عبر عقود- فشل ربط مصالح مصر مع طرف بعينه. الرئيس السيسى عمل خلال السنوات الماضية على إعادة إحكام قبضة مصر على قراراتها السياسية، وهو طبعا مسار لا يلتقى مع مصالح الطرف الأمريكي.
المغالطات السافرة فى الأمثلة التى يسردها مللر لا تصل إلى مستوى الحوار الموضوعي.. إذ تكفى آلاف مقاطع «اليوتيوب» التى توثق النتائج الكارثية التى جلبتها على المنطقة التدخلات الأمريكية والأوروبية. لعل بعض الأمثلة رد على ما يطرحه المقال، تجاهل (البنتاجون) وزارة الدفاع الأمريكية والبيت الأبيض عام ٢٠٠٣ تقارير وكالة الاستخبارات المحذرة من قرارات حل الجيش وتدمير المؤسسات السياسية، التى ستدفع العراق إلى جحيم حرب أهلية، وهو ما حدث فعلا. الهاجس الأمريكى تجاه الجيوش العربية امتد حتى عام ٢٠١١ وهى تراقب مرحبة التدخل الكارثى لقوات حلف شمال الأطلنطى (الناتو) وأطاح بالعقيد معمر القذافى، ثم انفرد بإدارة مشهد بلغ قمة الفشل فى ليبيا. بينما لم يرق لأمريكا ظهور قيادة للجيش الوطنى الليبى فى شخص المشير خليفة حفتر تسعى لتحرير ليبيا من تحولها إلى ملجأ آمن لمختلف التنظيمات الإرهابية. مقابل التقاعس الأمريكي-الأوروبى عن تقديم الدعم العسكرى للجيش الليبي، يصف مللر الدعم السياسى والعسكرى المصرى (سلوك غير ودى للغاية من صديق مزعوم).. الرد هنا يقتصر على سؤال بسيط عن طبيعة الإرهاب الذى تزعم أمريكا محاربته!. كما غابت عن ذاكرة «الباحث المرموق» وهو يدين انحياز مصر إلى موقف روسيا حول الأزمة السورية داخل مجلس الأمن، الصور الودية التى ملأت كل المواقع الإخبارية مع أعضاء جبهة فتح الشام الإرهابية- النصرة سابقا- وكأنها لمسئولين من مصر وليست لنواب كونجرس، أو أن الزمن قد عفا عن مقاطع (اليوتيوب) التى توثق حميمية العلاقة بين تنظيم القاعدة أثناء استقبالهم فى جميع مؤسسات صنع القرار الأمريكي. تشويه الحقائق الغالب على المقال يحمل مصر أيضا وزر التخلى عن «حليفتها» نتيجة مواقفها من القضية الفلسطينية.. وكأن من شروط التحالف - تقديم الرئيس السيسى التهنئة إلى ترامب ونتنياهو على إعادة القضية الفلسطينية إلى المربع الأول وإلقاء المزيد من الوقود على الصراعات المشتعلة فى أجزاء من المنطقة العربية!.
المقال يعكس حالة أعصاب أمريكا الثائرة بسبب توجه القيادة السياسية المصرية.. تحديدا الرسالة غير المباشرة ضمن كلمة الرئيس السيسى أثناء افتتاح المشاريع فى الإسماعيلية السبت الماضي. مللر لا يرى فى الإنجازات على الصعيد الداخلى سوى حالة «خراب»، فى عودة غير مباشرة إلى نغمة نشاز تجاوزها شعب مصر وهو يصدم أمريكا مطيحا بتنظيم مسلح تدعمه الأولى، إضافة إلى الإشارات الجوفاء المكررة من خلط بين محاكمات قتلة (عصابة البنا) على إراقتهم الدماء المصرية، وبين قضية حقوق الإنسان، وفصل هذه العصابة عن التنظيمات الإرهابية المسلحة.. ثم يلقى الكاتب أغرب مزاعمه! إن تضحيات أغلى وأشرف أبناء مصر فى الحرب على الإرهاب هى التى غذت الإرهاب فى العالم! التعاون العسكرى أيضا لم يسلم من مغالطات مللر، مشيرا إلى تجاهل مصر العروض الأمريكية لتدريب القوات المسلحة على مكافحة الإرهاب، علما بأن انقطاع مناورات (النجم الساطع) هو رغبة أمريكية، كما حدث مع تصريحات من مصادر فى البنتاجون عن سحب كتيبتها التى يبلغ عددها الأكبر ضمن قوات حفظ السلام المتعددة الجنسيات فى سيناء. على الصعيد الخارجى، رغبة مصر فى ممارسة حق استقلالية قرارها السياسى أيضا أعمت السياسى المرموق! عن رؤية أى مكانة لمصر رغم كل المكاسب الدولية والعربية والإقليمة التى حققتها الأربع أعوام الماضية.
المسار الذى اختارته مصر جعل حتى من هم المفترض على معرفة وثيقة بمصر والمنطقة بحكم مناصبهم يمارسون خلطا سافرا بين التحالف وذل التبعية.