الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الثقافة ومجتمع الصراصير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الثقافة السائدة في مجتمع معين ما هي إلا انعكاس صادق للقيم السائدة بين مثقفي ذلك المجتمع.. إذا سادت بينهم قيم رفيعة ارتفعت الثقافة وازدهرت.. وإذا طغت قيم هابطة هبطت الثقافة واختنقت.. وعلى ذلك يتضح أن الثقافة ليست مسئولية فرد بعينه، أو جهاز من أجهزة الدولة، أو تنظيم من التنظيمات.. الثقافة نبض الأمة، قد ينتظم هذا النبض ويقوى، وقد يضطرب ويخفت.. يتوقف هذا كله على القلب، والقلب هنا يمثله الأدباء والعلماء والمفكرون والفنانون، وفي عبارة واحدة «المثقفون» وهم الصفوة والنخبة.
وإحدى الآفات الكبرى التى تنخر في حياتنا وتشوهها إنما تتمثل في الصفوة أو النخبة -وبتعبير أوضح- في المثقفين الذين يوظفون كل ما حصلوا عليه من علم ومعرفة وثقافة من أجل تحقيق مصالحهم -وقد تكون مصالح رخيصة وتافهة- الواحد منهم يستعين بالألفاظ المنمقة والمناهج المنطقية من أجل تضليل الغير، وإخفاء مصالحه الحقيقية. 
في حين أن الشخص العادي (أو ما اصطلح على تسميته بـ «رجل الشارع») يعبر عن رأيه ومشاعره بطريقة مباشرة ودون زخرفة، وهذا أفضل بكثير من مراوغة المثقفين. وإنني هنا لا أعمم ولا أُصدر حكمًا مطلقًا، فلا شك أن هناك نماذج رائعة من المثقفين الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، ويحرصون على مصالح الناس والوطن حرصهم على الحياة، وهم على استعداد للتضحية بكل شيء في مقابل قول الحقيقة، فضلًا عن تعاطفهم وتفاعلهم مع مختلف قضايا المجتمع.
على الجانب الآخر، أود أن أشير إلى وجود قطاع كبير من المثقفين في بلادنا يحبون ذواتهم حبًا جمًا، يصل في أغلب الأحوال إلى حد «النرجسية»، فالواحد منهم يسلك في كل دروب الحياة حاملًا بين يديه مرآة تعكس صورته، ناظرًا إليها طوال الوقت، لا يرى إلا نفسه، ولا يتحدث إلا عن نفسه: نجاحاته، وإنجازاته، وفتوحاته الكبرى، وصولاته وجولاته، وآرائه المبهرة، ومشروعاته الناجحة.. إن أقل ما يقال في وصف مثل ذلك الشخص أنه أناني، وتتمثل الأنانية في العبارة البسيطة القائلة: «أنا ومن بعدي الطوفان» أو «أنا وبأي ثمن» أو «أنا وأيًا كانت الوسيلة».. إن هذه الأنانية قد دبت في أوساط المثقفين فأصابت حياتنا الفكرية بالضعف والانحدار. 
وبسبب النرجسية والأنانية سلك بعض المثقفين عندنا مسلك «مجتمع الصراصير»، كما يسميه «توفيق الحكيم» دون قصد الإهانة أو السخرية، «فهو مجتمع مختلف عن مجتمع النمل، فالنملة عندما تعثر على قطعة سكر تجدها، وقد اجتمعت حولها جماعة من النمل تتعاون على حملها، أما مجتمع الصراصير فهو مثل مجتمع المثقفين اليوم، قلما تجد مجموعة من الصراصير تحمل فكرة وتعمقها وتفيد بها.. لأن كل صرصار مشغول بنفسه فقط».
ولهذا كما يقول توفيق الحكيم: «لا يوجد بناء فكري أو فلسفي أو أدبي يقوم شامخًا متكاملًا، وإنما الموجود أفراد، كل فرد مشغول بفكرته يحملها وحده ولا يلتفت أو يهتم إلا بما يحمله هو. وهذا سر من أسرار تخلف مجتمع الصراصير». 
إن المثقفين في بلادنا أشبه بالجزر المنعزلة، لا تواصل أو تعاون بينهم، إلا من رحم ربي.. وإذا اجتمعوا طغى الصراع والتطاحن والتشاحن بينهم. إن غياب روح الفريق، وانعدام التعاون العلمي والفكري بين الباحثين والمفكرين ساهم في تراجعنا وتخلفنا عن ركب التقدم.. هذا فضلًا عن أن عددًا لا بأس به من المثقفين يدور حيثما تدور السلطة، أيًا كانت هذه السلطة، والسلطة لا نعني بها هنا السلطة السياسية فحسب، فالجامعة التي ينتسب إليها المثقف، والمؤسسة التي يعمل بها، والمجتمع الذي يعيش فيه، فضلًا عن السلطة السياسية، كلها تمثل سلطة على أفكار وآراء المثقف.