لا أعرف بالضبط سر استدعائى لأغنية الفنان محمد منير الرائعة «يالا للى»، كلما ارتبط حديثى بحركة حماس وقادتها، ففى تلك الأغنية مقطع رائع، يعبر عن الهوان والضعف وقلة الحيلة، وصولا لفقدان النخوة الوطنية، فضلا عن دوام الرغبة فى الاعتماد على الغير، أيا كان الغير، عربيا، فارسيا، «عثمانلى»، ومهما كانت دوافعه ومراميه، سواء دعم المقاومة لتحرير الأرض المحتلة، أو التحريض على ارتكاب الجرائم الإرهابية، فتحت بريق نبل لافت للمقاومة وتحرير القدس يقف قادة حماس على أبواب قصور الحكم فى العواصم المختلفة، ويتسولون على موائد اللئام فى مغارات أجهزة الاستخبارات، لتلقى التكليفات وتنفيذ ما يوكل إليهم خارج الأراضى المحتلة وكله بثمنه.
أما المقطع الذى أقصده فى أغنية منير، فيقول «يا مين يجيبلى حبيبى، والفؤاد يرتاح يالا للى»، فظاهره وجوهره، حسب فهمى، أن العاشق الولهان، المتيم بالمحبوبة، اتكالى، عاجز، ينادى باكيا بإذلال وانكسار على مجهول لا يعرفه، كى يأتى له بمحبوبته، ليريح قلبه من عذاب الهجر وطول الانتظار، هو لا يريد التعب أو العناء لتحقيق ما يريده، تاركا المهمة لغيره.
بهذه الطريقة يتعامل قادة تنظيم حماس مع القضية الفلسطينية ينتظرون من الآخرين تحرير الأراضى المغتصبة، لأنهم ببساطة مشغولون بما هو أكثر أهمية بالنسبة لهم من القدس والمسجد الأقصى، وبقية الأماكن المقدسة فى أرض الآلام والأحزان والأوجاع المزمنة.
الواقع على الأرض يشير إلى حقيقة لا يمكن تجاهلها، مفادها بأن عناصرهم العسكرية «كتائب عز الدين القسام»، تحولوا بفعل تعليمات قادتهم إلى مرتزقة، يقومون بتنفيذ مهام محددة خارج أراضيهم على غرار «بلاك ووتر» وبقية الفرق المأجورة، هؤلاء لا يوجهون أى ضربات نحو إسرائيل إلا بتعليمات تصب فى صالح الدولة العبرية، بإعطائها المبرر لمصادرة الأراضى وهدم البيوت واعتقال القوى الفاعلة على الأرض.
تذكرت الأغنية، وتذكرت معها الحديث عن حقيقة الدور الذى تلعبه حركة حماس، فى أعقاب ما أعلنت عنه فى مؤتمرها الصحفى قبل أيام فى العاصمة القطرية «الدوحة»، حول ما أطلقت عليه وثيقة المبادئ والسياسات العامة، التى احتوت تراجعا عن خطابها المتشدد بشأن حدود الدولة الفلسطينية وإقامة الدولتين، حيث وافقت على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧.
لفت انتباهى تباين ردود الفعل حول الوثيقة، اعتبرها البعض تطورا إيجابيا فى استراتيجية الحركة، وتعامل معها البعض الآخر من زاوية رؤية ضيقة، تدور فى فقدان الإخوان جناحهم المسلح فى غزة.
لكننى على المستوى الشخصى، أؤكد عدم اقتناعى بما جرى، بل إن الشك فى مصداقية حماس وعدم التزامها بما ورد فى الوثيقة يزيد من قناعاتى، فالوثيقة مجرد ادعاءات ومحاولات خبيثة، للخروج عن دائرة الاتهامات التى تلاحق قياداتها وصولا إلى وصف التنظيم بـ«الإرهابى»، لارتباطه العضوى والفكرى بجماعة الإخوان، كما أن مشهد إخراج الوثيقة يهدف إلى إقناع الشعب العربى بالقدرة على تحقيق الهدف الأسمى وتحرير الأرض، فاتخذ قادة الحركة من الوثيقة كلمة السر للنفاذ بها على غرار «خالتى بتسلم عليك»، كلمة السر التى أطلقتها نادية الجندى كوسيلة جبارة للنفاذ إلى خزينة أسرار الموساد، وقيادة أركان الجيش الإسرائيلى، للحصول على أخطر الوثائق فى فيلم مهمة فى تل أبيب.
الدوافع التى تقف وراء الوثيقة متنوعة، منها محاولات تجميل وجه الحركة، لامتصاص تصاعد حدة الرفض الشعبى داخل الأرض المحتلة لممارساتها، بعد أن لمس الجميع أنها تسعى لتفتيت وحدة الصف وإضعاف السلطة الفلسطينية ووضع المعوقات أمامها، بما يصب فى صالح إسرائيل، كما لا يخفى على أحد أن الأمر برمته يدور فى فلك المخططات القطرية التركية الرامية لصعود حماس فى المشهد الفلسطينى بديلا لمنظمة التحرير ومحمود عباس أبومازن، وعلى ضوء هذه التصورات تسعى الحركة لتقديم أوراق اعتمادها.
محاولة حماس التنصل من ارتباطها التاريخى بجماعة الإخوان أشبه بمحاولات «الحرباء» بتغيير جلدها مع الحفاظ على غريزتها وعقيدتها.
الوثيقة المزعومة لا تمثل خروجا عن الجماعة، ولا ترمى إلى تغيير جذرى فى مواقف الحركة، أو ببنيتها التنظيمية ومكوناتها الفكرية، ولو كانت لديها نية جادة فى الانسلاخ عن جماعة الإخوان لاتخذت مواقف جزرية، منها إلغاء ميثاق تأسيسها أو تعديله.
القراءة الدقيقة لمشهد إصدار الوثيقة أو إطلاقها من الدوحة، تؤكد حزمة من الحقائق، منها أن حماس أخذت هذا الادعاء الذى وصف بالتطور فى منهج واستراتيجية حماس أنه تطبيق لمبدأ التقية، وهو مبدأ شيعى، مفاده إظهار عكس الباطن، كما أن قادة حماس لجأوا إلى ذلك بعد أن زاد دعم القاهرة لفتح والسلطة الفلسطينية، فضلا عن القناعات الراسخة لدى المصريين بضلوع حماس فى احتضان التنظيمات الإرهابية ومدها بالسلاح والتدريب والقيام بالتهريب عبر الأنفاق، وثبوت تورطهم فى أعمال الفوضى التى جرت أثناء وأعقاب ٢٥ يناير، إلى جانب التورط فى تفجيرات أنابيب وخطوط الغاز.
يمكن القول إن النظر إلى حركة حماس يدخل فى نطاق الصورة المحفورة فى الذهنية العربية عن الإخوان، كما أن الإعلان، باعتبار الإخوان تنظيما إرهابيا، كاف للتعامل مع حركة حماس من بوابة المعطيات ذاتها، خصوصا إذا علمنا أن حماس هى فرع للإخوان وفق وثيقة تأسيسها، إلا أن ضرورات المواءمات السياسية، المرتبطة بدواعى الأمن القومى العربى بصفة عامة والمصرى خاصة، توجد قدرا من الحساسية فى التوجه نحو وضعها فى سلة الجماعة بصورة مطلقة، إلى جانب الاعتبارات القومية والأخلاقية تجاه القضية الفلسطينية، كل هذا سيزيد من مساحة الحساسية فى الموقف الرسمى والشعبى داخل الدولة المصرية، خاصة إذا علمنا أن مواقفها تسير وفق رؤية استراتيجية، ولا تقوم على الانفعالات أو ردود الأفعال، باعتبار أن القضية الفلسطينية هى الأكثر حضورا وطغيانا على ما سواها لدى المصريين، لذا فإن تعامل الدولة المصرية مع هذا الشأن محكوم باعتبارات المسئولية القومية والتاريخية.
هذه الاعتبارات لا تنفى حقيقة الواقع الملموس الذى يؤكد أن خالد مشعل، صانع القرار داخل الحركة، صار سمسارا، مهمته الطواف ليل نهار حول قصور الحكام والتنقل بين موائد اللئام تحت لافتة براقة ونبيلة اسمها المقاومة.. وفى النهاية أستطيع أن أقتبس من نادية الجندى كلمة السر.. خالد مشعل.. «خالتى بتسلم عليك».