اندهش كثيرًا من خلط الأوراق ومحاولات اجتزاء العبارات لتوظيفها فى غير موضعها، وتبلغ دهشتى حد الحيرة، حينما أكتشف أن المرء مطالب بإثبات البديهيات، ومستدرج للبحث عن أدلة للإقناع بها، ليس من باب الإصرار على تسويق الأدلة ذاتها، إنما يكمن القصد فى إقناع أدعياء المعرفة فى كل شىء، ممن يتصدرون المشهد العبثى بكل مفرداته ويطلقون الفتاوى اللقيطة مجهولة المصدر، الفتاوى الضالة المضللة، لإلصاقها بالدين الإسلامى وتشويه صورته والدين منها براء.
كنت فى جلسة سهر عادية مع مجموعة من الأصدقاء، أعتدنا الجلوس سويا على أحد المقاهى فى المنطقة الشعبية التى أقطن بها، شارك جلستنا بعض المعارف، جرت خلال لقائنا مناقشات تخص الشأن العام، كما هى عادتنا وكان من الطبيعى أن تشغل زيارة بابا الفاتيكان للقاهرة حيزا مهما من المناقشات، يساوى فى حجمه وأهميته كلمة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر التى قوبلت بارتياح.
لكننى فوجئت على غير العادة بمناقشات عبثية لم أكن أتوقعها، مناقشات مشوشة هلامية، لا يستطيع أحد مهما كانت براعته الإمساك بخيوطها أو توجيه دفة الحوار فيها، فالرؤى متنافرة والأحاديث متناثرة فى كل اتجاه، فاختلطت الأوراق بصورة مستفزة، كل واحد من الجالسين راح يتحدث فى شأن يختلف عن جوهر الموضوع المطروح للنقاش، إذا لم يكن غريبا أن تتراوح الأحاديث بين أمور شتى، اختلطت فيها زيارة البابا فرنسيس وكلمة الإمام الطيب بالأزمات الاجتماعية وشئون السياسة والاقتصاد، ومن الإرهاب إلى الأوضاع الإقليمية وبالمناسبة حتى لا أكون مغاليا فى انتقاداتى لأجواء تلك المناقشات هذا هو حال المصريين جميعا، وليس جلستنا وحدها.
فبينما تتداخل الحوارات، فجأة وبدون مقدمات محفزة بالأساس على طرح التساؤلات المريبة فى ظاهرها وجوهرها، سألنى أحد الجالسين مشهور بالثرثرة قائلًا: ما الفائدة التى تعود علينا من زيارة بابا الفاتيكان؟.
كان التساؤل مستفزا، ومثيرا للاشمئزاز فى طريقة إلقائه، وقبل أن أبادر بالرد عليه، تدفق سيل تساؤلاته المشحونة بالكراهية، لذا قررت أن أصمت، لكى يصل لمنتهى ما يصبو إليه، حتى أتيقن من مبتغاه وسوء قصده.
راح محدثى يتقيأ بأسئلة متفرقة ذات اليمين وذات الشمال، أسئلة لا يربطها رابط أو هدف، وراح يجيب عنها بنفسه وكأنه يلوح بالدليل القاطع عن صواب.
لا أنكر أن دهشتى من فجاجة أسلوبه وبغض مقصده بلغت حدا أثار شفقتى على نفسى من إصرارى على الاستمرار فى الإنصات لما يقوله، وقد كان بإمكانى أن ألوذ بصمتى وأنزوى بعيدا عن هذا الصخب العقيم، ناجيا بنفسى من الانزلاق فى متاهات الشد والجذب التى تؤذى ولا تفيد.
لكننى واصلت الاستماع لـ«هرتلاته» قلت له: أنا لن أبحث عن أدلة لدحض سوء قصدك، فقط علينا أن ننظر إلى زيارة بابا الفاتيكان من الناحية السياسية، وما يتبعها من مردود على المستويين الأمنى والاقتصادى.
قال ساخرا: هو البابا «جاى يستثمر» علشان يبقى ليها مردود اقتصادى؟
قلت: هى استثمار للدولة المصرية، فأنا أرى أن الزيارة بمثابة رسالة وجهها البابا فرنسيس إلى العالم، وهذه الرسالة مشحونة بدلالات لا يمكن إغفالها، مفادها أن مصر ظلت وستظل بلدا آمنا منذ احتماء السيد المسيح وأمه به وبأهله قبل ألفى عام «رحلة العائلة المقدسة» وإلى الآن، كما أنها تبعث بطمأنة للأوروبيين تشجعهم على الاستثمار وتحفزهم على زيارة معالمه الحضارية والتاريخية ومقاصده السياحية، ألم تكن مثل هذه الرسالة لها مردودا على المستويين الأمنى والاقتصادى.
أود الإشارة إلى أننى، أكدت أكثر من مرة على جملة من الحقائق التى لا أرى حرجا من البوح بها فى كل مناسبة، ومضمونها أن قوى الغرب هى من صنعت الإرهاب، وهى من مولته لتخريب البلدان والسطو على ثرواتها، فالقضية ليست الدين وإن كان الإرهابيون يتخذون الدين وسيلة لهم، وتمكين حكومات الغرب من إيجاد المبرر لاتهام الإسلام، كما أن ما أعرفه عن الدين هو كل ما أؤمن به ويتسق مع المنطق ويتقبله عقلى، شأنى فى ذلك شأن غالبية المسلمين على اتساع الكرة الأرضية، كما أننى أعلم بحكم قناعاتى التى شكلت وعيى وعقيدتى، ولو اختلف معها البعض، بأن ما يرسخ للفتنة والفرقة وتغييب العقل، ليس بدين من الأساس، وأتباعه ليسوا بمسلمين ولا يعرفون عن الإسلام شيئا، فالأديان السماوية جميعها تدعو للرحمة والتسامح، لا تصنع الفتن ولا تنشر القلاقل فى المجتمعات ولا تدعو لتخلفها عن ركب التحضر.
هذه القناعات التى ترسخت فى وجدانى، لمستها فى كلمة الشيخ الطيب للعالم والتى أرسى فيها توجهات الأزهر نحو تطوير الخطاب الدينى، فالكلمة كانت واضحة وجلية لا لبس فيها ولا موائمات ضلت طريقها خلسة، بل جاءت تعبيرا عن توجه الأزهر، نحو تحمل مسئولياته فى مواجهة قوى الظلام عبر خطاب عصرى ينبذ العنف والكراهية.
إن الترجمة الواقعية لحقيقة توجهات الأزهر تبلورت فى حديث شيخ الأزهر ودعوته التى أسدل بها الستار على مشاهد العهر الدينى لشيوخ الفتنة، ودعا لعدم تحميل الأديان السماوية مسئولية الإرهاب الذى يضرب العالم ويدمر حضارته الإنسانية، مشيرا فى سياق كلمته التى وجهها إلى البابا فرنسيس للتعاون من أجل المستضعفين والجائعين والأسرى والمعذبين فى الأرض دون فرز أو تصنيف، متسائلا: كيف أصبح السلام العالمى وسط التقدم الكبير هو الفردوس المفقود؟، لم يكن التساؤل هادفا البحث عن إجابة حائرة أو تفسيرا افتراضيا، فالإجابة معلومة لديه ولدى متلقيها ولدى الموجهة إليهم ضمنا، مؤكدًا أن السبب هو تجاهل الحضارة الحديثة للأديان الإلهية وقيمها التى لا تبدل بتبدل المصالح والشهوات.
كما أكد ضرورة عدم محاربة الأديان بسبب جرائم قلة عابثة، فليس الإسلام دين الإرهاب بسبب قلة خطفوا نصوصه واستخدموها فى سفك الدماء ويجدون من يمدهم بالمال والسلاح والتدريب.
فى هذا السياق يقفز إلى ذهنى تساؤل أرى أنه مشروع ومواكب لحالة الشفافية التى احتلت مكانتها فى مشهد الزيارة، هل حان الوقت لاستنفار الجهود والطاقات لكى نطهر بلادنا من عبث شاءت أقدارنا أن نعيش مآسيه وتداعيات ما يصنعه من خراب؟.