أسوأ ما فينا، إدمان الثرثرة فى كل شىء، فيما يفيد وفيما لا يفيد، ففى أعقاب كل جريمة إرهابية تستهدف كمينا أمنيا أو كنيسة، لا يتوقف بعضنا عن الإفتاء، تارة بوعى، وتارة بدون وعى، وفى الأغلب، بدون وعى، نسارع جميعا بفتح مزاد «المكلمة» على مصراعيه بدون ضابط أو رابط، الكل يدلو بدلوه فيما يعرف وفيما لا يعرف، متحدثا كأنه علاّمة عصره فى استراتيجيات الأمن القومى، وخبير زمانه فى قصايا مكافحة الإرهاب.
لذا لم تعد هناك فروق بين فتاوى «أبوالعريف» المتداولة على المصاطب والمقاهى، وفتاوى جهابذة التنظير والتقعير فى ستديوهات القنوات الفضائية، كل منهم راح يمتطى صهوة احتكار المعرفة ويهذى بعبارات هلامية، مكررة، تلوكها الألسنة فى كل مناسبة، وتجترها الأفواه بتلذذ على خلفية أى جريمة إرهابية، ثم ينفض السامر وينصرف الجميع إلى حال سبيلهم، معتقدين أنهم أدوا رسالتهم النبيلة ودورهم التنويرى فى فضح أساليب الإخوان وقطر فى حربهم الإعلامية، وأن عبقريتهم الفذة فى الصراخ حققت نتائجها فى توعية الشباب بحقيقة الأفلام المفبركة، وبثت فيهم روح الوطنية ونبذ الإرهاب الأسود، كما أن براعتهم، أزاحت الستار عن الجوانب الخفية للإرهابيين وطرق تجنيدهم، وسرعان ما نجد أنفسنا مرة أخرى وجها لوجه أمام جريمة إرهابية أخرى، تهز مشاعرنا وتضاعف من قلقنا لبعض الوقت، وبالتزامن مع وقوعها، نعاود فتح مزاد «الهرى» من جديد بنفس الطريقة الهلامية وذات التصورات السطحية، بدون أن نتعلم من أخطائنا، وبدون أن يعى كل منا دوره فى إلقاء الضوء، ولو على استحياء، صوب أمور أخرى لا تنفصل بحال من الأحوال عن جوهر القضية الأساسية، وأقصد، الحرب الخفية التى تواجه فيها مؤسسات الدولة المصرية، مغامرات أنظمة حكم إقليمية «قطر وتركيا» وغيرهما، وأجهزة استخبارات دولية من بريطانيا إلى أمريكا ومن إسرائيل إلى ألمانيا، أعدت فى كواليس دوائر صناعة القرار فى بلدانها، مخططات شيطانية ورصدت أموالًا قذرة، وأمدت بالأسلحة المتطورة تنظيمات وجماعات إرهابية، أفرادها مهيئون، بفعل التغييب العقلى والفشل الإعلامى وجمود الخطاب الدينى، لتنفيذ ما يوكل إليهم من جرائم.
فى الحرب الخفية التى تدور رحاها، لا يمكن إقصاء الإعلام، بعيدا عن مسرح الأحداث، حيث تنفق الأموال الهائلة على إنتاج أفلام وبرامج، يزعمون زورا أنها وثائقية، لتشويه الحقائق، وترويج الأكاذيب، بهدف الإساءة للجيش وأجهزة الأمن، لخلق مناخ معاد لهما سواء فى الداخل أو الخارج، معتمدين على قنوات فضائية مشبوهة مثل «الجزيرة القطرية» التى تبث إرسالها من الدوحة، وقناتى الشرق ومكملين، من تركيا، باعتبارها، أهم الأدوات المستخدمة فى الحرب الموجهة ضد مصر ومؤسساتها الصلبة، فضلا عن ترويج هذه الأكاذيب عبر وسائل الاتصال الحديثة «السوشيال ميديا» بصورة مذهلة، حيث يتلقفها المشوهون ذهنيا ويتداولونها بلا وعى أو دراية بنتائج ما يصنعون.
لو توقفنا قليلا أمام الأفلام المفبركة التى تذيعها القنوات المشبوهة، ولعل آخرها الذى يروج لقتل المدنيين فى سيناء على أيدى جنود الجيش، سيجعل الأسئلة تقفز إلى الأذهان بصورة تلقائية.. هل قام الجنود بتصوير أنفسهم مثلا حتى يمكن تصديق مثل هذه الادعاءات؟.. أم أنهم اصطحبوا معهم مصورين لتوثيق ما قاموا به؟
بالرغم من أن مثل هذه المحاولات الموتورة، فاشلة ولا تلقى رواجا يحقق أهدافها، إلا أنها، وهذا هو المهم، فى حاجة إلى مواجهة إعلامية وشعبية، ترقى لمستوى المسئولية الوطنية، وتتسق فى مضمونها مع يقظة مؤسسات الدولة وقدرتها على مواجهة الحرب الخفية بكل أبعادها وآلياتها.. لكن هل لدينا إعلام يمتلك براعة ابتكار أساليب وآليات المواجهة..أم أنه إعلام سطحى لا يرقى لمستوى الحرب التى تخوضها الدولة؟
الحقيقة وهذه وجهة نظر الغالبية أنه إعلام سطحى، ما يثير الغثيان، أن الإعلاميين والكتاب ومن يطلق عليهم النخبة أصبحوا، بقدرة قادر، خبراء فى كل شىء، فى الدين والسياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة والعلوم الاستراتيجية وما تحويه الأخيرة من تفاصيل متصلة بالأمن القومى بتنوع تعقيداته الأقليمية والدولية، هؤلاء جميعا يدخلون فى سباق الفتاوى العشوائية، المهم أن الجميع يتحدث ويطلق سهامه ذات اليمين وذات اليسار، فصار كل شىء من حولنا عبثيا، الجميع يفعل ما يريد، متصورين على غير الحقيقة أنهم يخاطبون جمهورًا مهموما أو مهتما بما يقولون، أو لديه قناعة بما يسمع من صراخ أجوف لمذيعين بقدمون برامجهم على طريقة الهتيفة، فالجمهور المستهدف من وسائل الإعلام وأعنى الشباب، انصرف عنهم ولم يعد مهتما بالتصورات المطروحة فى برامج «التوك شو»، فقدوا الثقة فى وجوه إعلامية، منفرة، لم تعد مريحة، جراء سطحيتها وهشاشة رؤيتها فى تناول القضايا الشائكة، واتجهوا، أى الشباب، نحو عالمهم الافتراضى «مواقع التواصل الاجتماعى»، راحوا يتفاعلون معه ويصبحون جزءا لا يتجزأ من مكوناته العبثية فصاروا فريسة سهلة ووجبة دسمة لتنظيمات إرهابية، خرجت من رحم الإخوان، وإن تنوعت مسميات تلك التنظيمات، فهذا هو الواقع، وهذه هى الطامة الكبرى.
إذا أردنا هزيمة هذا الواقع والانتصار لأنفسنا فى الحرب ضد الإرهاب، فعلينا اقتحام الصعب بجرأة، والوقوف مع أنفسنا فى لحظة صدق لمواجهة الحقيقة بدون تزويق للعبارات، كما علينا التحذير من الإصرار على تقديم النوعية الهابطة من البرامج والابتعاد عن السطحية والهشاشة فى طرح الرؤى، خاصة أن الأمر يتعلق بقضية جوهرية تمس استقرار ومستقبل الدولة المصرية.
من هذه الزاوية واتساقا مع الواقع الذى نعيشه ونتعايش معه، لن أمل من تكرار التصورات التى تنطلق منها رؤيتى وقناعاتى الذاتية فى كل ما يتعلق بالحرب ضد الإرهاب، والحروب الخفية التى تتصدى لها مؤسسات الدولة بكل صلابة لحماية الأمن القومى، إننا فى حاجة لإيقاظ ضمائرنا من غفوتها، والوقوف أمام ذواتنا مجردين عن أهوائنا الشخصية، ممسكين بتلابيب الشجاعة فى الإقدام على محاسبة أنفسنا أولًا، ماذا صنعنا؟.. وما الذى قدمناه لدعم الدولة فى الحرب ضد الإرهاب.. وماذا قدمت القنوات من برامج وأفلام تروى الحقيقة بلا رتوش؟