لسنا فى حاجة لإصدار بيانات الإدانة، ولسنا فى حاجة لعقد المؤتمرات الشعبية لإعلان التبرؤ من الإرهابيين وأفعالهم، وإن كانت هذه الجهود محمودة ومشكورة، لكننا فى حاجة لإيقاظ ضمائرنا من غفوتها، إيقاظها، الآن، الآن وليس غدًا، للوقوف أمام ذواتنا مجردين عن الأهواء الشخصية، ممسكين بتلابيب الشجاعة فى الإقدام على محاسبة أنفسنا، ماذا صنعنا وما الذى قدمناه فى الحرب ضد الإرهاب؟.
الحقيقة أننا لم نقدم شيئًا، بل رحنا نتحدث عن دعمنا للدولة بدون أن نقدم عملًا واحدًا يلائم طبيعة الظرف التاريخى الذى تمر به البلاد، فقط تفرغ الجميع للإفتاء فيما يعرفون وفيما لا يعرفون، وتحولت وسائل الإعلام «فضائيات وصحف مقروءة» إلى صخب أجوف ومكلمة تدور فى الفراغ، لا تنتج سوى حشو العقول بالجهل وفقدان الرؤية، أغفلت رسالتها النبيلة فى التوعية، لمواجهة موجات إطلاق الشائعات عبر لجان ومواقع إلكترونية محترفة، راحت تبث السموم والأفكار المتطرفة سواء من الداخل أو الخارج، أما نحن فأصبح دورنا الفرجة والإفتاء، بدون إدراك من جانبنا بأننا نفعل، سواء بوعى أو بدون وعى، مثلما فعل قوم موسى مع نبى الله موسى، حينما قالوا له «فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون»..هكذا فعلنا جميعًا، فتورطنا بالصمت والتقاعس أمام تكرار الجرائم.
فالجرائم الإرهابية الأخيرة، جعلتنا نقف عرايا أمام أنفسنا، فهى كشفت الغطاء عن قبحنا الأزلى، وأسقطت كل مساحيق التجميل من فوق عباراتنا الإنشائية التى نرددها فى كل مناسبة، لنثبت على غير الحقيقة، أننا مع الوطن فى كل قضاياه، للحقيقة المرة، أننا تركناه يخوض حربًا شرسة ضد الإرهاب، الآفة، التى تمددت وتوغلت بأفكارها المسمومة داخل أحشاء المجتمع من شماله إلى جنوبه، ومن مدنه إلى قراه، فأنتجت عقولًا خربة وقلوبًا ميتة، لأشباه بشر استباحوا دماء المصريين من جنود وضباط الجيش والشرطة والمدنيين «مسلمين ومسيحيين».
أشباه البشر الذين أقصدهم فى هذا السياق، هم من جعلونى أقف طويلا أمام إعلان وزارة الداخلية فى بيانها، عن هوية منفذى العمليات الإرهابية فى الإسكندرية وطنطا، هزتنى الصدمة عندما علمت أن بعضهم ينتمى إلى محافظة قنا، فكان من الطبيعى أن يقفز التساؤل المشحون بالمرارة.. لماذا قنا؟.. وحتى لا يبدو السؤال غريبًا على من لا يعرف طبيعة تلك المحافظة المعقدة فى خريطتها الاجتماعية، أود التأكيد على أمور ربما تكون غائبة عن البعض. قنا انتفضت ضد الإرهاب فى وقت مبكر، حينما بادر قيادات القبائل ورموز العائلات للاصطفاف خلف أجهزة الدولة للقضاء على ظاهرة تنامى سطوة الجماعات الإسلامية أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضى، وتم اجتثاث هذه العناصر من جذورها بلوغًا إلى حد التهديد بطرد الأسر التى ينتمى إليها بعض الإرهابيين وهو ما جرى بالفعل. لكن يبدو أن هناك تحولًا طرأ على التركيبة الاجتماعية والقبلية فى تلك المحافظة جعل القبائل تفقد سطوتها، لذا علينا قراءة أسباب التحول بصورة موضوعية بعيدا عن التهويل والتهوين.
إن تراجع دور القيادات والزعامات العائلية، لم يأت من فراغ، لكنه إفراز طبيعي للتحولات التى جرت على المستوى العام، بما يشير لوجود أسباب موضوعية لا يمكن إغفالها، ففى أعقاب ٢٥ يناير ٢٠١١، خرجت الفئات الهامشية من جحورها وكهوفها، للانقضاض على سطوة القبائل الضامنة للاستقرار فى مجتمعات الصعيد وبلغت الأمور حد الاشمئزاز من تلك الفئات، أثناء سطو الجماعة المارقة على السلطة فى مصر، ففى تلك الأثناء توارت القبائل وتراجع دورها بفعل الظرف السياسى، حيث اعتلى الهامشيون المشهد بكل سوءاته وعوراته، وانضم اليهم آخرون باحثين عن دور فى الخريطة الاجتماعية الجديدة، أطلقوا اللحى لمواكبة المرحلة السياسية المرتبكة، وصاروا ملكيين فى الدفاع عن الجماعات المارقة أكثر من أعضاء تلك الجماعات، فى ظل إغراءات بإتاحة الفرصة للمشاركة فى المواقع السياسية، كبديل للعائلات ذات التاريخ الطويل فى هذه المجالات، فصاروا وليمة سهلة للفئات المنظمة من التيار المتأسلم، فجرى استقطابهم بسهولة.
أما الفئات الهامشية التى أقصدها فهى متنوعة بتنوع التركيبة القبلية، تضم غير المنتمين للقبائل والعائلات العريقة، وتضم أيضًا بعض المنتمين للقبائل الرئيسية «العرب والأشراف والهوارة»، فضلًا عن العائلات الكبيرة، لكن أفرادها يعيشون على هامش الحياة العامة، بعيدين كل البعد عن تفاصيلها السياسية وعلاقاتها الاجتماعية، سواء بسبب الظروف الاجتماعية المتدنية أو نتيجة الشعور بالدونية فى مجتمعات يتباهى قاطنوها بأصولهم وجذورهم التاريخية ومكانتهم الأدبية والاجتماعية.
إن استقطاب إرهابيين من بعض قرى محافظة قنا، يمثل على الأقل بالنسبة لى، قضية خطيرة، تحتاج إلى حث القيادات الشعبية والرموز القبلية على القيام بدورهم المتعارف عليه فى التوعية وإلزام الأهالى بمتابعة أبنائهم ورصد علاقاتهم بعيدا عن الاعتماد على الدراسات والبحوث لتحليل ظاهرة الإرهاب، أسبابه وتداعياته، فالواقع الذى نعيشه أصدق أنباء من الدراسات التى أثبتت توصياتها فشلًا ذريعًا، لأنها نتاج للنظير والتقعير والهرى، الذى بات محفوظًا عن ظهر قلب، ومفاده أن غياب التنمية والفقر وراء تنامى ظاهرة التطرف، فإذا كان غياب التنمية سببًا أو دافعًا للتطرف لأصبح معظم أبناء الأقاليم متطرفين وإرهابيين.
هذه التصورات النظرية لا محل لها من الإعراب على أرض الواقع، فلا غياب التنمية ولا البطالة سبب فى تجنيد الشباب للقيام بعمليات إرهابية، خاصة إذا علمنا أن المتورطين فى تنفيذ العمليات التى هزت المجتمع، من الحاصلين على مؤهلات عليا ومتوسطة، ويعملون فى وظائف مختلفة، منها وزارات الأوقاف والبترول والتربية والتعليم ومنهم ميسورو الحال، بما يعنى أن مستوياتهم الاقتصادية لم تتأثر بغياب التنمية، وإن كانت التنمية أمرًا مطلوبًا فى المجتمعات المهملة، لكن هناك جوانب أخرى يجب رصدها بدقة، فالمال والاستقطاب عبر مواقع التواصل الاجتماعى هما الأساس، لذا فإن تفعيل القانون ومعاقبة أصحاب الرؤى المسمومة والشائعات المغرضة صار من الضرورات، ولو لم يكن هناك فرض لحالة الطوارئ، ففى الحروب تتوارى القوانين أمام المصلحة العليا للبلاد، وهذه ليست بدعة، لكنها فريضة تلتزم بها كل شعوب العالم إذا تعرض أمن بلدانهم القومى للخطر.