روى لى صديق كان يعمل قبل عدة سنوات فى قسم الترجمة بالمخابرات القطرية، وذات يوم تلقى دعوة مع عدد من زملائه (معظمهم مصريون وسودانيون وفلسطينيون) لزيارة المتحف القطرى، ظنوا أنهم سيشاهدون تراثا إنسانيا وحضاريا يجسد المراحل التاريخية لنضالات حكام قطر عبر الأزمنة، لكن خاب ظنهم، فأثناء تجولهم داخل الأقسام والقاعات الفخمة بصحبة مسئولى المتحف، لفت نظرهم إلى أن معظم المقتنيات المحاطة بأغلفة زجاجية، لا ترقى لمستوى التراث، ولا تعبر عن أى مكون حضارى أو ثقافى للمجتمع، فهى عبارة عن صناعات فخارية «طواجن وأباريق ومواقد خاصة بطهى البن».
الزائرون استوقفتهم التواريخ المدونة أسفل الأوانى، فهى لا يزيد عمرها عن عدة عقود معظمها فى النصف الأول من القرن العشرين، لكنها فى نفس الوقت مزيلة بعبارة غريبة أثارت الدهشة، أما العبارة فهى «أثر من الأزمنة السحيقة».
صديقى معروف بأنه صاحب نكتة، والتعبيرات الساخرة لا تغادر جلسته المشحونة بالتلقائية والعفوية، فهو صعيدى لا يزال يتمسك بالتقاليد التى يظن البعض أنها بالية، لذلك لم يقترب من جلستنا الملل، وهو يروى لى قصة زيارته للمتحف وحديثه الممتع عن تاريخ الحضارة القطرية، وكلما حاولت إيقاف تدفق شلال السخرية، لكى أفيق من نوبة الضحك، أجد فيضانا لا أستطيع مقاومته.
قال، المصيبة فى التزوير الفاضح للتاريخ، فقد وجدنا فى المتحف نوافذ وأبوابا خشبية وبقايا مراكب وحبال والكثير من أدوات الصيد، هذه المقتنيات، خصوصا النوافذ والأبواب، حرضت أحد المترجمين فى المخابرات القطرية، وهو سودانى الجنسية، واستفزه المشهد، سأل مدير المتحف سؤالا مهينا فى شكله ومضمونه، قال له، ما علاقة النوافذ والأبواب الخشبية بالخيام، رد مدير المتحف، ماذا تقصد بسؤالك؟ هل تقصد تاريخ هذه الآثار؟ لو كنت تقصد ذلك، فهى تعود للقرن التاسع عشر، قال السودانى، يا أخى سؤالى واضح، ما علاقة النوافذ والأبواب الخشبية بالخيام؟ بعد جهد، أدرك مدير المتحف القطرى مغزى السؤال، فاشتاط غضبا من المواطن السودانى، وبعد مشادات كلامية حضرت الشرطة وقيادات من المخابرات «جهة عمل المجموعة التى تزور المتحف»، وحاولوا الاستفسار عن سبب المشكلة، قال السودانى لم يكن هناك وجود لبلدكم فى القرن قبل الماضى، وكنتم جميعا تعيشون فى الخيام، وهذا ليس عيبا أو شيئا شائنا لكم، فهذه طبيعة البيئة الصحراوية، والخيام ليست بها نوافذ خشبية ولا أبواب خشبية، فكيف تقولون إنها تراث تاريخى، راح السودانى يروى للقطريين أن سؤاله ليس فيه إهانة لبلدهم، مدللا على أن بلده، السودان به من كانوا رحلا عبر الأزمنة، والمنازل لم تكن موجودة إلا فى المدن، كان صديقى يروى لى تلك القصة مقلدا لهجة زميله السودانى، فكان الضحك مصحوبا بالدموع، استوقفته وسألت عن مصير زميله السودانى، قال لى، إنه خرج من المتحف إلى المطار، وتم ترحيله إلى بلده بدون أن يحمل متعلقاته.
على أى حال، تذكرت ما رواه لى صديقى أثناء متابعتى لتداعيات زيارة موزة بنت المسند أم الأمير ذى الملامح الإيرانية إلى أهرامات السودان، أنا هنا لن أتوقف كثيرا عند المغزى السياسى للزيارة، ولن ألتفت إلى أساليب كيد النسا فى السياسة القطرية، وإن كانت التفاصيل مهمة فى دلالاتها وتوقيتها والرسائل الصادرة عنها، لكن الزيارة، على الأقل بالنسبة لى، مهما كان مسماها، وأيا كانت دوافعها لا تمثل سوى مشهد عبثى من مسلسل السفه القطرى، لذا سأجنح بعيدا عن كل هذا، وأتساءل عن السر الكامن وراء هوس «موزة» والأسرة الحاكمة فى قطر بالأهرامات، أكرر مرة أخرى، الأهرامات، سواء المصرية أو السودانية، لماذا الأهرامات بالذات؟
قطعا، لا أعلم الإجابة، ولا أزعم درايتى بما يدور فى خلد موزة أو ابنها أو زوجها، لكن كل ما أعرفه أن حمد حاكم قطر السابق «اللى هو زوج موزة»، حاول أثناء سطو الجماعة المارقة على السلطة فى مصر، إقناع مكتب الإرشاد وحكومة هشام قنديل، بالموافقة على مشروعات استثمارية ضخمة فى منطقة الأهرامات بحق انتفاع لمدة ١٠٠ عام، حق انتفاع وليس شراء كما راج فى بعض وسائل الإعلام، لكن المشروع الاستثمارى الذى نشرت وثائقه فى فضيحة مدوية، وأثار ضجة وضجيجا، اشترط أن تكون الأهرامات كأثر تاريخى ومقصد سياحى ضمن المشروع، وفشلت هذه المحاولة بعد التصدى لها من قبل الأجهزة السيادية فى الدولة المصرية. قصد القول إن طرفى الصفقة المشبوهة لا يدركان حجم الجرم الناتج عن مجرد التفكير فى مثل هذه الأمور، هما جماعة مارقة تتاجر بالدين، وليس لديها مانع من بيع الآثار واعتبارها سلعة تدر أموالا، خصوصا أن كل شىء لديها قابل للعرض والبيع، فهى لا تؤمن بالأوطان أو التاريخ أو الحضارة الإنسانية، أما الطرف الثانى فهو ثرى، وسفيه، يريد شراء تاريخ ومجد، ولو كان لغير أجداده، يريد أن يلصقه لنفسه، على طريقة الفئات الهامشية الباحثة عن أصول، ظنا أن الأموال تصنع لهم جذورا من العدم.
فمن أهرامات الجيزة التى توصف بأهم عجائب الدنيا، إلى أهرامات السودان التى لا ننكر أن لها حضارة باعتبارها من البلدان التى تعيش على ضفاف النيل، ها هى «موزة» تظهر من جديد فى زيارة تحت غطاء تنموى، دون أن تفصح عن رغبتها فى الاستثمار السياحى، كمقدمة لضم المنطقة الأثرية فى السودان ضمن مشروع استثمارى بالتوازى مع الاستثمار فى المجال الزراعى، لذا لم يكن غريبا أن تتحدث «موزة» عن قدم أهرامات السودان، وتحاول مقارنتها بالأهرامات المصرية لإثارة اللغط والجدل فى وسائل الإعلام، وافتعال معركة تدور فى اللاشىء، فالحضارة المصرية ليست فى حاجة للدفاع عنها، لكن المثير للدهشة أن الشيخة المتصابية، وجدت من يسير فى ركبها ويدخل فى دائرة اللاشىء.