فى خضم الأحداث التى يمر
بها المجتمع المصري، أقام حزب الدستور انتخاباته أو ما أطلق عليه "الانطلاقة
الثالثة لحزب الدستور"، ولم تلتفت معظم وسائل الإعلام للخبر، وفى تقديرى أن
زحام الأحداث ليس وحده المسئول عن هذا التجاهل، لكن أيضا النحو الذى جرت عليه الانتخابات،
وتجربة الحزب طوال عامين وهى تمضى إلى الانطفاء والانزواء والنزول بالحزب الذى بدأ
قويا وعقدت عليه الآمال ليكون من مصاف أحزاب الصفوف الأولى إلى الصمت والجمود
التام.
لا أخفى سرا أننى منذ اللحظة الأولى لنشأة الحزب
وجدته أقرب إلى تظاهرة سياسية كبيرة، لا عمل حزبيا حقيقيا مبنيا على توافق مصالح
واضح، وهو ما جعلنى متوقعا طوال الوقت لتفككه وانهياره قبل أن تظهر بوادر هذا
التفكك.
ولا شك أنه من المحزن أن تفشل هذه التجربة لأن
مراقبة انطفاء الوهج فى كل هذا الكم من الشباب المتحمس للمشاركة السياسية، بعد
سنوات من العزوف أمر محبط.
ففى اللحظة التى تحتاج كل الأحزاب المدنية إلى الاحتشاد
وإحتواء وتدريب هؤلاء الشباب وتمكينهم بحيث يكونون قادة المستقبل، بدلا من تركهم
نهبا للسلبية والفراغ والأفكار المتطرفة، تسقط تجربة جديدة من تجارب المجتمع
المدنى فى قلب التشتت والصراع.
أحب هنا أن أنقد من موقع المراقب تجربة حزب الدستور
لا بغية هدمها، ولكن دعوة مفتوحة منى لأبناء الحزب لتصحيح المسار، فمن اللحظة
الأولى بدى واضحا للجميع أن داخل الحزب مجموعات منقسمة لم تتمكن من الاتفاق على
توجهات الحزب أو حتى نجاح مجموعة فى السيطرة بشكل كامل على مجريات الأمور، لكن
الواضح أن طوال عامين استطاعت تلك المجموعات تعطيل مسار وحركة الحزب.
وأظن أن هذا الأمر عائد إلى أن نشأة الحزب الأولى
جاءت على أرضية التوافق حول شخص الدكتور محمد البرادعى، باعتباره الرجل المناسب
للمرحلة والأب الروحى لمجموعة من الشباب يستلهمون أفكارا، ويرون فيه بوابة العبور
للمستقبل، فى الوقت الذى نفض فيه البرادعى يده من الحزب ومن البلد بأسرها، وانسحب
من السباق الذى أنشئ من أجله الحزب، دون إيجاد صياغة توافقية مستقبلية لاستمرار
الحزب، فتم اختزال الحزب فى شخص الدكتور محمد البرادعى فقط.
فى هذه اللحظة بات حزب الدستور يتيما، وكانت الصدمة
الأولى، إذ تجلى أن داخل الحزب مجموعات خبيثة من الإخوان والسلفيين، انضمت بهدف
تمزيق الجبهة الداخلية للحزب، وفى كل مرة حاول أعضاء الحزب التوافق حول قرار
اكتشفوا أن الأرضية التى يقف عليها الجميع رخوة ولا تسمح بالبناء مطلقا.
وسط هذه الأجواء عقد الحزب انتخاباته الثانية،
لتتولى الدكتورة هالة شكر الله رئاسة الحزب، لكن سرعان ما طفت على السطح أزمات
اليسار الذى تنتمى له الدكتورة هالة شكر الله، وتم ترك القضية الرئيسية للحزب،
والخوض فى غمار معارك هامشية، كلفت الحزب وشبابه الكثير، وغاب تماما عن الحزب فكرة
بدائية فى العمل السياسى، وهى أن "السياسة هى فن الممكن"، وصارت قواعد
الحزب قبل قياداته نهبا للخلايا الإخوانية السرطانية التى انزرعت منذ اليوم الأول
فى عمل الحزب بغية تعطيله، وتوريطه فى معارك ومزايدات لا تغنى ولا تسمن من جوع.
وهنا نحن نرى من جديد عودة الحزب برئاسة الأستاذ
خالد داوود والذى تولى دور المتحدث الإعلامى باسم الحزب، وقد فاز فى انتخابات الانطلاقة
الثالثة وسط صراع مع ما سمى مجلس حكماء الحزب والذى يبدو أنه كان مريرا، وهو الأمر
الذى دفعه لإعلان خبر فوزه بالتزكية، مصحوبا برجاء ألا يلتفت أحد لأى بيانات تشويش
تصدر للتشكيك فى عودة الحزب، وهذا يعنى أننا أمام حالة انقسام جديد وحاد، آمل أن
يتم تداركها سريعا، وأن تكون هذه الانطلاقة الثالثة بمثابة التأسيس الأول بالمعنى
السياسى لتجربة حزبية عاقلة، وقادرة على استيعاب اللحظة السياسية، ومدركة لخطورة
وأهمية الوقوف فى خندق العمل الوطني العام، وقادرة على طرد الخلايا المسرطنة داخل
صفوف الحزب حتى لا يستمر الحزب داخل نفس دوامة التفتت الأبدية.