تابعت مثل كثيرين غيرى ما جرى فى كواليس عزاء عمر عبدالرحمن، من أطروحات عبثية تناقلتها بعض وسائل الإعلام، لكننى اندهشت لحد الحيرة من التعامل معها باعتبارها معلومات مؤكدة، الحديث هنا يدور حول مبادرة أطلقتها قيادات الجماعة الإسلامية، للتصالح مع «جماعة الإخوان المارقة»، يمكننى وأنا مرتاح البال وصف مثل هذه المبادرات بالخزعبلات،أما السبب، يا سادة يا كرام، ليس لأنها صادرة عن قيادات الجماعة الإسلامية الذين انقلبوا على مبادرة نبذ العنف للخروج من السجون، وسرعان ما عادوا إليه بصورة أكثر بغضا أثناء سطو الإخوان على السلطة، عبر تضليل الرأى العام، إنما لأسباب أخرى، مجملها يدور فى أن الأمر برمته، خرج عن الدوائر الرسمية، وأصبح شعبيًا بامتياز، فالمجتمع وحده دون سواه، صاحب القرار، فضلا عن أن الأمر يتضمن دهسا لمفهوم الدولة وجورًا على هيبتها، حيث يمكن لنا جميعا فهم أن تكون المصالحات مع أنداد، أفراد وأفراد، عائلات وعائلات مثلها، دول ودول أخرى، لكن لا يمكن للمرء أن يفهم على الإطلاق أن تكون جماعة إرهابية فى حوار مصالحة مع الدولة.
الغريب أن ما جرى تداوله فى هذا السياق المشحون بالدهشة والصدمة، ما يدفعنى أنا وغيرى للتأمل فى طريقة الطرح الخبيثة، المغرضة، فالتصريحات التى خرجت على استحياء، مفادها أن المبادرة المزعومة، لم تكن مجرد رؤية ذاتية من شخص هنا أو قيادة فى إسطنبول، كما أنها ليست خاطرا راود هذا أو ذاك، فهى، أى التصريحات، تضمنت مزاعم عن التشاور مع أطراف نافذة فى الدولة المصرية، مرورا بمزاعم أخرى حول التنسيق مع جهات سيادية.
على خلفية المزاعم المتناثرة، بشأن مبادرة المصالحة مع الجماعة المارقة عن الصف الوطنى، العابثة بأمنه واستقراره، يصبح من المنطقى توجيه سهام الاتهامات صوب الحكومة، بالتواطؤ، وعدم القدرة على مواجهة الرأى العام، وهذا هو الهدف المقصود من تلك التصريحات الوهمية لفتح حنفية التكهنات، وتنامى الشائعات حول تورط جهات سيادية فى صفقات مشبوهة، ينطبق عليها ما هو شائع من مقولات مثل « مفيش دخان من غير نار»، فهذه العبارة، أو المثل الشعبى يحمل دلالات عميقة تؤكد أن الدخان لا ينبعث فى الهواء، إلا إذا كانت هناك نار موقدة، بمعنى آخر الأشياء لا تولد من العدم، أى لا بد أن يكون لها أصل فأى معلومة تتطاير هنا أو هناك، أو حديث يتردد هنا أو هناك، لا يمكن الاستمرار فى ترديده، حتى الملل، إلا إذا كان هذا الحديث منطلقا من حقيقة ثابتة، كما لا يوجد حديث مثل هذا، يزج فيه بمؤسسات وإن لم يتم تحديدها، بدون أن يكون به قدر ولو ضئيل من الصحة.
إن القراءة الدقيقة لجوهر مبادرات الجماعة الإسلامية، تؤكد أنها ليست بريئة بالمرة، وتدفع لتنامى مساحة الغضب من نظام الحكم فالواقع على الأرض يؤكد بما لا يدع مجالا لأى شك أن غالبية المصريين بتنوع شرائحهم الاجتماعية وتباين مواقفهم السياسية فى كل ما يتعلق بالشأن العام يرفضون مجرد التلميح ولو على استحياء عن المصالحة مع جماعة قامروا بالوطن على موائد الشيطان، وشربوا نخب فضائحها فى حانات واشنطن والدوحة وإسطنبول.
غاب عن أمراء الدم سؤال، أرى أنه مهم، هل يمكن أن تذوب هذه الجماعة التى استباحت الدماء وعاثت فى الأرض فسادا فى نسيج الوطن؟
الإجابة عن هذا التساؤل تكمن فى عبارة واحدة موجزة، مضمونها لا أمان لمن تربى فى بيت الأفاعى، المقصود هنا، الإخوان والوسطاء على حد سواء، فبالنسبة للذين طرحوا المبادرة، أستطيع القول إنهم خرجوا بالأساس من رحم الإخوان، أقصد الجماعة الإسلامية «أسسها عبدالمنعم أبوالفتوح، الذى أصبح فيما بعد الرجل الثانى فى تنظيم الإخوان».
المسخرة، التى يطلق عليها مجازا مصطلح المصالحة مع جماعة أدمنت الكذب والخداع والنفاق أمر لا يستطيع كائن من كان فى هذا البلد أن يقبل مجرد سماعه ولو فى سياق الدردشة، فالترويج الزائف، جعل بعض الأبواق تردد النغمة النشاز بطريقة متقنة وممنهجة، دون الأخذ فى الاعتبار أن المنتمين إلى الجماعة التى تريد الوساطة، هم إرهابيون بالتكوين، ويباركون جميع الجرائم التى جرى ارتكابها، ويؤمنون بنفس الأفكار، وينفذون ذات التعليمات التى تصدر من قيادات الإخوان، وهذا يعنى أن عقولهم ملوثة بجميع المصائب التى لحقت بنا.
إن تكرار الحديث بهذه الصورة المريبة من وقت لآخر يؤكد أن النية تتجه نحو الاستمرار فى تلك المسخرة.
فى هذا السياق، يلزم التأكيد على جملة من الحقائق، مضمونها، يؤكد أن هذه المحاولات مرفوضة شعبيا، كما أن الحديث عن وجود شخصيات قريبة من دوائر صناعة القرار منسوب لها التفاوض مع قيادات الجماعة الإسلامية حول المصالحة المزعومة، إن صحت سيساهم فى فقدان الثقة فى هذه الدوائر.
لا يمكن لأحد، القفز أو تجاهل أمر مهم، مفاده أن الإدارة الأمريكية جعلت الجماعة منذ عدة عقود إحدى أوراق الضغط التى تلوح بها فى وجه الدولة المصرية، فضلا عن أنها أهم أدواتها فى تنفيذ مخططاتها الاستراتيجية، ولا يخفى على أحد أن المنطقة بأكملها باتت تعانى من ويلات الإرهاب الأسود الذى خرجت تنظيماته على اختلاف مسمياتها من رحم تنظيم الإخوان باعتبارها الجماعة الأم، فهى التى أسست ودربت وخططت لكل أشكال الخراب فى المنطقة العربية.
المروجون للمصالحة منحوا أنفسهم حق الوصاية على المجتمع، ووضعوا جماعة إرهابية فى موضع الندية مع الدولة، بدون دراية بمفهوم الدولة وفق الإطار القانونى، فهى ليست نظام الحكم وحده، إنما «أرض وشعب ونظام حكم»، فهل جرى طرح المبادرة على الشعب، أم أن أطراف الوساطة تجاهلوا عمدا الطرف الأهم فى معادلة الاستقرار، وهو الشعب الذى يدفع على مدار الساعة ثمن الإرهاب عبر سقوط الشهداء من خيرة أبنائه من ضباط وجنود ينتمون لمؤسستى «الجيش والشرطة»، هؤلاء الوسطاء الباحثون عن دور فى المشهد السياسي، يطلقون المبادرات دون دراية بأن غالبية المجتمع يرفضون مصافحة الأيادى الملوثة بدماء الشهداء.