أسوأ ما أنتجته ٢٥ يناير، ظهور الوجوه القبيحة لـفئات انتهازية وجماعات فاشية، لم يدخر أفرادها جهدًا فى نشر الفوضى تحت لافتة خادعة براقة، ظاهرها لا يعكس حقيقة جوهرها، هؤلاء التجار تصدروا المشهد على أنهم ثوار، فتضخمت ذواتهم، تارة بفعل تغاضى مؤسسات الدولة عن كافة جرائمهم التى ارتكبوها، وتارة أخرى بفعل التدليس النخبوى والإعلامى، فظنوا أنهم احتكروا الحقيقة، وصاروا أصحاب رؤية ثاقبة، تمنحهم وحدهم دون غيرهم، الحق فى توجيه سياسة الدولة على هواهم، رغم سطحيتهم وعدم امتلاكهم أى مقومات تجعل المجتمع يتغاضى عن استعلائهم البغيض، صار كل مأجور منهم «أبوالعريف»، يفهم كل شىء فى أى شىء، يفتى فى الشأن الاستراتيجى وأبعاد الأمن القومى، ويرصد أبعاد المتغيرات فى السياسة الدولية، ويدلى بدلوه فى القضايا المعقدة، ولا حكيم زمانه، بل بلغ التبجح مدى غير مسبوق، عندما راحوا يحددون من يبقى ومن يرحل، من يحكم ومن يحاكم، تجاهلوا الشعب صاحب الحق الأصيل ووصفوا غالبيته بـ «حزب الكنبة» وراحوا يتحدثون باسمه «الشعب يريد»!!.
هؤلاء راحوا يصنعون الأكاذيب، ومن كثرة تكرارها أدمنوها وصدقوها، وتحولوا إلى فاشيين فى الحكم على الأشياء، ومن ليس معهم عدوهم، ومن الغريب، عقب رحيل مبارك عن الحكم، تعامل الكثيرون مع الأكاذيب والشائعات، باعتبارها «مسلمات» لا يجوز التشكيك فيها، رددها بعض الصبية، المنتمين لما يطلق عليهم القوى الثورية والحركات الاحتجاجية مثل الببغاوات (حافظين مش فاهمين)، تبعهم الغاوون من المراهقين الحالمين بالحصول على لقب «ثورى» هتفوا ضد المؤسسات الصلبة التى يقوم عليها بنيان الدولة، أى دولة، الجيش ـ الشرطة ـ القضاء، دون دراية بأنهم أدوات يستخدمهم قادة من المأجورين، وشخصيات دفعت بها واشنطن أمثال البرادعى وأيمن نور ومكتب إرشاد الجماعة المارقة وأحمد ماهر، هؤلاء التجار المحترفون تبعهم مراهقون، لا يعرف غالبيتهم المخططات الشيطانية الرامية لتنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة، الذى أطلقته كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية قبل اندلاع شرارة الغضب الشعبى بخمس سنوات كاملة، وهو المشروع الذى تم بمقتضى تكتيكاته، تجنيد بعض قيادات الحركات الاحتجاجية، ٦ أبريل، والاشتراكيون الثوريون، وتمويلهم وإيفادهم للتدريب فى صربيا ونيويورك، على كيفية تنفيذ الأجندة الأمريكية فى المنطقة العربية، عبر تقسيم أقطارها دويلات صغيرة على أساس عرقى ومذهبى وطائفى، بما يجعلها دويلات هشة لا تقوى على حماية حدودها وشعوبها وثرواتها، ويضمن فى ذات الوقت تفوق الدولة العبرية، وهى لم تكن بعيدة عن مخططات الفوضى لإسقاط الدول وتفكيك جيوشها بعد إنهاك قواها فى حروب ضد الإرهابيين، وتشتيت جهودها فى المواجهات مع مثيرى الفوضى فى الداخل، وهو ما جرى بالفعل فى بعض البلدان العربية، لكن أجندتهم فشلت فى مصر، لأنها اصطدمت بقوة الجيش الصلبة.
كانت الأكاذيب جميعها تصب فى خانة توجيه الاتهامات بلا حدود للشرطة فى جرائم القتل والنهب وفتح السجون وصناعة الانفلات الأمنى، بهدف التحريض ضدها وافتعال المواجهات معها بما يمهد لإدانتها دوليا، ثم هدمها فى إطار مخططات نشر الفوضى، رغم أن الحقيقة المؤكدة يعرفها القاصى والدانى فى بر مصر، لا تحتاج إثباتا من أحد، وهى خروج وزارة الداخلية بتنوع أجهزتها من المشهد منذ مساء يوم الجمعة ٢٨ يناير وهو اليوم المعروف بـ «جمعة الغضب»، إلا أن تلك الحقيقة، ظلت كسيحة، عاجزة عن التصدى لمحاولات الإدانة العشوائية فى وسائل الاعلام، الأمر الذى ساهم فى تنامى الاتهامات ضدها وإتساع دائرة تشويهها عبر إلصاق الأكاذيب المدبرة بفعل فاعل، حتى صارت الأكاذيب فى نظر الكثيرين حقائق ومسلمات تستخدم فى التدليل على الأحداث.
فمن ذا الذى يجرؤ آنذاك على التشكيك فى الأضاليل المحاطة بالقداسة الثورية والمحصنة بقوة الضجيج فى الميادين؟.
ففى تلك الأجواء الصاخبة كان الضجيج هو الحاكم، المتحكم فى المشهد برمته، أما صانعوه فكانوا هم الأعلى صوتا، والأكثر قدرة على ابتكار الشائعات ونسج الادعاءات المنظمة، وترويجها فى القنوات الفضائية التى نصب مذيعوها أنفسهم جنرالات، يقودون الحشود ويحددون مسار المظاهرات ويوجهون الاتهامات ويصدرون الأحكام، دون النظر إلى الواقع المرعب الذى يتعرض فيه الوطن للانهيار.
لكن بعد مرور الوقت وتراكم الأحداث وظهور الوثائق والتسجيلات، أصبح ممكنا رؤية المشهد من زاويا أوسع، يتاح من خلالها القراءة بصورة أكثر دقة، خاصة إذا تبين لنا أن السيناريوهات فى كل الثورات الملونة، التى أسقطت نظم الحكم فى أوروبا الشرقية، تتشابه، بل تتطابق مع ما جرى فى مصر وتونس وليبيا (نفس الأسلوب وذات التفاصيل)، الأحداث بحذافيرها انتقلت من دولة لاخرى. إشعال المظاهرات، تأجيج مشاعر الغضب واتهام أنظمة الحكم بقتل المتظاهرين، إسقاط الحكام، الوصول للانفلات الأمنى والفوضى. فى هذا السياق لابد من التأكيد على أن قتل المتظاهرين، كان عنصرا أساسيا فى تنامى الحشود، وبالرغم من أن القتلة ظلوا لفترة طويلة لغزا محيرا، الا أن حقائق مؤكدة تذهب إلى ضلوع الإخوان مع عناصر إرهابية تنتمى لتنظيم حماس وراء ما جرى. كل تلك المشاهد التى حمل ظاهرها الرغبة فى التغيير، تحرض على إيقاظ علامات الاستفهام، للبحث عن إجابات، تزيح الستار عن جزء من التفاصيل التى ظلت غامضة. فى مقدمة التساؤلات الملحة بعد أن جرى الكشف عن الكثير من الأسرار: هل انتقل الغباء من حاكم لآخر؛ على زين العابدين، القذافى، مبارك، حتى يكون قتل المتظاهرين سببا مباشرا فى إسقاطهم من فوق عروشهم؟!. التساؤل لايعنى بالضرورة تأكيد الاتهامات ضد جهة أو فصيل إو إسقاط الجريمة عن تلك الجهة أو ذاك الفصيل، بقدر ما هو محاولة للحض على التفكير واستخدام أساليب التحقيق السياسى فى وقائع غيرت مسار التاريخ، بهدف الوصول لنتيجة متسقة مع العقل ومتناغمة مع معطيات الواقع أثناء الأحداث التى عاصرها وعايشها ليس المصريون فقط، بل العالم كله عبر فضائيات البث المباشر.